في المجر، وتحديداً في جبالها الوعرة والباردة، يعيش وحشٌ روّع أهل إحدى القرى ونكّد عليهم معيشتهم. في أحد الأيام قام لاورو، أحد نبلاء المنطقة، بمطاردته، واكتشف أنَّ ذلك الوحش هو الملكة تيودوسيا الجميلة، الزّوجة الأولى للملك بريميسلاوس. تُخبر تيودوسيا صيّادها أنّها وقعت ضحية لمؤامرات شقيقتها فوستينا وحُكم عليها بالموت في هذه الجبال الوعرة، وهكذا ينتهي بها الأمر بين وحوش الجبال، ولكي تتمكّن من النجاة، عليها أن تتحوّل إلى وحشة، مثلهم، تجوب من كهف إلى آخر.
في أثناء ذلك كله، تكون فاوستينا قد اغتصبت العرش وهي الآن على وشك أن يكون لها وريث. في صباح أحد الأيام تخرج الأسرة المالكة لصيد الغزلان في تلك الجبال، فيقرّر سكّان القرية انتهاز الفرصة ويطلبون من الملك أن يقتل ذلك الوحش الذي يخيفهم ويروّعهم. تقرّر فاوستينا ــ التي كانت برفقتهم ــ الانسحاب إلى مكانٍ آمن، وهكذا، بفعل الخوف، يسرع مخاضها وتنجب ــ في عزلة من الجبال ــ فتاةً صغيرة. ما إن تستجمع فاوستينا قوّتها بعد الولادة، تُصادف ــ وجهاً لوجهٍ ــ الوحش الضاري، فتسقط وتفقد وعيها. تقرّر تيودوسيا، التي عرفت أختها، أن تأخذ الفتاة منها لتربيتها في الجبال، وتطلق عليها اسم روساريو.
هذه هي نقطة البداية لحبكة مسرحية "الوحش المجري"، من تأليف الشاعر الإسباني لوبي دي فيغا (مدريد، 1562 ــ 1635)، والذي يمكن اعتباره نصّاً بِكراً من وجهة نظر المسرح، ذلك أنه لم يسبق أن عُرض على خشبةٍ مسرحيّةٍ في المائة عام الماضية على الأقل. هكذا قرّرت فرقة "آلاتوك" المسرحية، ومخرجها إيرنيستو آرياس، تمثيل هذه الملهاة ذات الطابع الحديث والترفيهي على خشبة المعهد الثانوي، ضمن نسخة هذا العام من مهرجان "بيرانوس دي فيا"، التي كانت فعالياتها قد انطلقت، في العاصمة الإسبانية مدريد، بداية تمّوز/ يوليو، لتُختَتم اليوم.
نصّ مسرحي بِكر لم يسبق عرضه على خشبة مُعاصرة
يبدأ العرض ــ المؤلّف من ثلاثة فصول ــ بطريقة تدريجية، وفعلياً لا تأخذ الأحداث إيقاعها المثير والمتناغم حتى نهاية الفصل الأوّل، البطيء إلى حدّ ما، وبداية فصل ثانٍ سريع الإيقاع. لقد مرّت عشرون سنة وروساريو ــ التي نشأت بين جبال وصخور يتعذّر الوصول إليها ــ تشاهد للمرّة الأولى في حياتها رجلاً يسبح عارياً في بحيرة قريبة. إنّه فيليبي، قرويٌّ بسيط تخلّى عنه جده في الجبال وتعهد لاورو في تربيته. إنه الرّجل الأوّل الذي تراه روساريو في حياتها: "وبعد أن استحمّ ولبس ملابسه، لم أتعب من تأمّله، لم أتوقّف عن النظر إلى جسده، عن تبجيله ومباركته، لقد صلّيت للأم التي أنجبته". بهذه الطريقة يولد شعور الحبِّ الطبيعي لدى روساريو، مكتشفةً للمرة الأولى، وبدهشة، الجمال الذكوري، تماماً كما اكتشف سيخسموند، في مسرحية "الحياة حلم" لكالديرون، الجمال الأنثوي ممثّلاً في بطلتها، والتي تدعى روساريو أيضاً.
تشتدّ حبكة المسرحية عندما يَقتلُ فيليب مزارعاً يريد مطاردة روساريو والقبض عليها. هكذا، يُلقى القبض على العشيقين وتتمّ محاكمتهما في البلاط الملكي، حيث تظهر هويّتهما الحقيقية أمام الجميع، وتُرفع الستارة عن مكائد فوستينا، لتأخذ العدالة مجراها وتنتهي قصّة الوحش الجميل.
يقدّم لنا لوبي في مسرحيته دراما مليئةً بالفكاهة والتآمر والخيانة والحبّ والشعر، يروي فيها قصّة نساء ثلاث، تيودوسيا وروساريو وفاوستينا، وما فيها من محاولة قتل الأخت، واغتصاب التاج، واختطاف طفلة وهجرها لتُربّى كالوحوش في أعالي الجبال. كما يروي تَحالف الأعداء، وثقافة مدنية شعبية، وملوكاً مشكوكاً فيهم، وشخصيات ثانوية تدعم أسطورة وحش برّي يعيش في منطقة جبلية تقع في جزء من المجر. غير أنَّ هذه القصص جميعها تدور حول فلكٍ واحد فحسب: الحبّ، باعتباره الدافع الحيوي الذي يغيّرنا؛ مرتبطاً، كما أراده لوبي في ملهاته، مع موضوع الحرية، لا سيّما حريّة الرجل والمرأة عندما يقعان في الحبّ فيكتشفان ماهيّتهما. هكذا سيطوف شعور الحبّ خشبة المسرح، ويسيل في العالم الذي يرسمه لوبي بطريقة طبيعية، لنتعرّف من خلاله على أنفسنا وعلى العالم المحيط بنا.
بقي المخرج وفياً في أغلب الأحيان لنصّ عمره مئات السنين
كلّ هذا سيظهر في الفصل الثاني من المسرحية، تحديداً في أبيات الشعر التي يكتبها لوبي، مازجاً فيها بين العاطفة والشهوانية، الحبّ والعقل، ولكن قبل هذا كله مستخدماً لغة فكاهيّة ومميزة. ضمن هذا السياق، ستُحرج روساريو أمها تيودوسيا؛ التي تريد أن تحميها من هذا العالم، لا سيما بعدما عانت الظلم والعزلة بين الوحوش، في أسئلتها عن الجسد، عن الحبّ وعن الجمال الذكوري، في مشهد جدليٍّ ومتعاطف. ثم سينتقل مباشرةً مُخرج العمل، في مشهد آخر لا يقلّ جدلاً وتعاطفاً، إلى حوار بين العشيقين تتخطى فيه روساريو، بفعل قوة الحبّ، لقب السيدة النبيلة وتتجاوزه، ممّا يضفي على العمل بُعداً حداثياً يتناقض مع كل ما كان يعتقد ماضياً عن المرأة. ضمن هذا الإطار سنكشف أن مهمة تحطيم القيود الاجتماعية وسلاسل الأعراف التقليدية هي السبيل الوحيد من أجل الوصول إلى الحرية المنشودة في الحب، أو إلى "الحرية الحرّة"، كما يقول مالارميه.
مُخرج العمل، إيرنيستو آرياس، كان وفياً للنصّ الأصل، لا سيما في الفصل الأول والثاني، أمّا الفصل الثالث، الذي أقحم فيه لوبي دي فيغا شخصيّات كثيرة، فقد عانى من مقصّه الإخراجي، مختصراً الثلاثين شخصية التي وردت في المسرحية إلى ثمانية ممثلين قاموا بأدوارهم على أكمل وجه.
تأتي أهمية مسرحية "الوحش المجري" من كونها تستعيد نصاً مسرحياً كُتب في العصر الذهبي للأدب الإسباني يُمَثّل للمرة الأولى على خشبة معاصرة. إنها كوميديا كاملة، تجتمع فيها كلّ العناصر الدرامية المرتبطة بهذا اللون: المأساة والغموض، الخيانات والمخاوف، اليقظة الجنسية، والحبّ، الذي لا بدَّ منه كي يحرّرنا من قيودنا الاجتماعية التي تُثقل علينا العيش في عالم اليوم.