"تحرير الشرق" لإياد البرغوثي: في التأسيس على الثقافة

18 مايو 2021
طلاب من جامعة طهران في مسيرة تضامن مع فلسطين، الخميس الماضي (Getty)
+ الخط -

تحضر الثقافة في وجدان الشعوب حضوراً مقيماً، لا طارئاً ومؤقتاً أو عابراً حضورَ الأنظمة والتحالفات السياسية التي تتغيّر بتغير المصالح. إنّ الثقافة، بوصفها العام، تتراكم وتصنع الوعي وتصوغ السياسات التي تلتصق بإرادة الشعوب. اعتبارات كثيرة يمكن أن يجدها القارئ في كتاب الباحث والأكاديمي الفلسطيني إياد البرغوثي، "تحرير الشرق: نحو إمبراطورية شرقية ثقافية"، الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، لا سيما أمام العدوان الصهيوني المستمر على الشعب الفلسطيني وأرضه، والذي نشهد اليوم تصعيداً فيه، وأمام حملات التطبيع السياسي التي شهدتها المنطقة العربية في الأشهر الماضية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.

يبحث البرغوثي عن ملجأ لدى الثقافة، لكنّه ــ بواقعية الباحث ــ لا يجد الملجأ بالصورة التي يتأمّلها، فيكتفي بالإشارة إليهِ والحديث عن أهمّيّة إيجاد سبل من أجل الخروج عن السيطرة الغربية بدءاً من الثقافة. فثقافات الشرق ــ وخصوصاً في المنطقة العربية ــ صارت ثقافاتٍ تابعة، والنخَبُ صنعت قيَمها وفقَ ما تراه منظومة القيَم الغربية، التي تريد لأوطانٍ ــ يحدّدها الكاتب من المغرب حتى أفغانستان ــ أن تبقى مجرد "كوريدور" يصلها مع الصين والهند، منافستَيْ الغرب الاستراتيجيين، والإبقاء عليها مجرّد ساحة مفتوحة للاستغلال والسيطرة.

رسالة إلى مثقّفي الشرق من أجل رسم ملامح الوعي التحرّري

ويُراد لشعوب الـ"كوريدور" (المَمَر) أن تقوم بوظيفة صاحب الفندق، أي "إرضاء الزبون فقط"، وأن تجد في أوطانها مجرّد محطّات لمصالح الآخرين، بحيث تكون شعوباً بلا هوية، أنظمتُها تابعة، والإنسان فيها مهزوم. ومن أجل الوصول بشعوب المنطقة إلى اكتساب هذه الثقافة، كانت الإمبريالية محتاجة إلى زرع "إسرائيل" فيها، وهي التمثيل الأكثر وضوحاً للمشروع الإمبريالي. على ضوء هذا يتحدّث البرغوثي عن خطورة التطبيع مع كيان الاحتلال، فالتطبيع يسعى إلى جعل وجود "إسرائيل" وجوداً طبيعياً، وبالتالي إبقاء حالِ التفكّك والتبعية قائماً.

يحلّل الكاتب معطيات تاريخية ومتسلسلة، ويخبرنا عبرها كيفَ عمل الغرب على جعل التطبيع مسوّغاً لدى عددٍ من الأنظمة العربية، على الرغم من أنّ تحالف هذه الأنظمة مع "إسرائيل"، جوهري، يعني تحالفها ضدّ نفسها. لكنّ التطبيع وجد لدى هذه الأنظمة مسوغاتٍ بعد سلسلةٍ من الأحداث؛ بدأت من هزائم المشاريع القومية الكبرى (هزيمة مشروع جمال عبد الناصر وخروج النظام المصري من الصراع)، ومن ثمّ ذهاب العرب إلى "الصُلح" فُرادى.

لكنّ ذلك حدث، في أحد وجوههِ، على خلفية فلسطينية. وهنا يسهب البرغوثي في شرح دور "منظّمة التحرير الفلسطينية"، إذ يرى أنّ المعارك والتحالفات التي خاضتها لم تكن من أجل التحرير، وإنّما من أجل "التمثيل"، والاعتراف بالمنظمة التي اعتقد رموزُها أنّ الاعتراف بهم ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني سيكون مقدّمةً للاعتراف بالدولة الفلسطينية. حتى وجدوا أنفسهم في "أوسلو" ملتزمين بدولة لا يعرفون حدودها على نحو دقيق ومحدّد، أمام كيان استيطاني، جوهر مشروعه العنصرية والتوسّع.

غلاف الكتاب

ويذهب الكاتب إلى القول إن "أوسلو جعلت الشعب الفلسطيني، الذي لم يهزمه الاحتلال طيلة عشرات السنين... تهزمه قيادته". وبعد مقولة الأنظمة العربية "نوافق على ما يوافق عليه الفلسطينيون"، تغيّر الخطاب تجاه الشعب الفلسطيني، وصارت هذه الأنظمة تضغط على الشعب الفلسطيني كي يوافق على ما وافقت عليه هذه الأنظمة التي ترزح أساساً تحت الهيمنة الأميركية، وهو ما تمثّل أخيراً في ما سماه الإعلام "صفقة القرن". لقد بدت مسألة التطبيع أشبه بالعار الذي يرميه كلٌّ في وجهِ الآخر.

كانت شيطنة الشعب الفلسطيني مقدّمةً للتطبيع، وحاول الإعلام تصوير المهجّرين الفلسطينيين كأصحاب مشاكل في الأوطان التي لجأوا إليها، بإغفال الظروف الاجتماعية والاقتصادية للجوء. كما تَرافَق التطبيع مع محاولات استبدال العدو، حيث أصبحت إيران، بما تمثّله، هي العدو بالنسبة إلى عددٍ من أنظمة المنطقة، و"إسرائيل" هي الحليف. باتَ العرب يبحثون عمّا يجمعهم، بغياب المشروع القومي، وباتوا بذلك أداةً بيد الإمبريالية؛ يخوضون حروبها ويحقّقون مصالحها. يشيرُ البرغوثي إلى خلل في بنى الدول القُطرية القائمة، فهي صنيعة الاستعمار، وليس يسيراً على هذه الدول التحرّر من صانعها.

تخشى "إسرائيل" من إعادة الاعتبار لفلسطين في الوجدان العربي

وفي معرض بحثهِ عن بديل للوحدة القومية السياسية، لإخراج الدولة القُطرية من أزماتها، ينتقد البرغوثي شعار "الدولة أوّلاً"، ويبحث عن بديل يراهُ في الإشارة إلى العوامل الثقافية المشتركة بين بلدان الشرق، ومن ثمّ تعزيزها والبناء عليها في وجهِ المنظومة الغربية. ويجد أنّ البلدان التي يمكن لها أن تشكّل رافعةً لتأسيس "الإمبراطورية الشرقية" انطلاقاً من القضية الفلسطينية التي تمثّل عمق مسألة تحرّر، هي تركيا ومصر وإيران.

لكنّ البرغوثي يذكّر بأنّ تركيا شريكة في المشروع الغربي، فهي عضو في حلف الناتو، وتسعى إلى الانضمام للمعسكر الغربي كما ترفض الالتفات إلى الشرق. فيما مصر أعفت نفسها من هذا الدور بعد اتفاق كامب ديفيد. وبالتالي، يعتقد البرغوثي، بناءً على هذه المقاربات، أنّ إيران هي الدولة الأمثل كي تقود مشروع الإمبراطورية الثقافية في الشرق، خصوصاً مع موقفها الجذري إزاء القضية الفلسطينية، وامتلاكها مشروعاً ذاتياً. ويشير إلى قصور الفهم العربي للمشروع الإيراني عبر قراءات ضيّقة، لا تجد أصداءها في عالم السياسة المتغيّر الذي لا تحركهُ العقائد فقط.

ويذكر البرغوثي في المقدّمة خلاصةَ الأفكار التي يحملها الكتاب: "ينطلق هذا المشروع الشرقي "الإمبراطوري" من فكرة أن الخلاص الحقيقي لشعوب الشرق، لا يمكن أن يكون إلّا جماعياً، نظراً لنظام الهيمنة الإمبريالي الذي يسعى إلى التحكّم والسيطرة على دول المنطقة وشعوبها، ومن بين أهمّ أدوات ذلك المشروع لاستمرار الهيمنة، استخدام دول المنطقة وشعوبها ومقدراتها نفسها ضد ذاتها، وإعادة بعث الهويات الفرعية، وإذكاء عوامل الفرقة أشكالها كافةً. من هنا يأتي دور الهوية الجامعة المستقبلية، حيث يُفكّك المستقبل الواعي "ألغام" الماضي المنتشرة في طرق التطور".

ولذلك، فهو يعتبر كتابه رسالة إلى مثقّفي الشرق، فهُم الأقدر على رسم ملامح الوعي التحرّري وعلى تعريف محدّدات الهوية الجامعة؛ لا سيّما أنّ المشروع الصهيوني للمنطقة قائمٌ على استبدال شعب أصلي بمهاجرين، واستبدال ثقافة أصيلة بأخرى تناقضها.

ينظر البرغوثي بعقلٍ نقدي بارد إلى الربيع العربي، ويعتبر أنّ "إسرائيل" قد خشيت من إعادة الاعتبار لفلسطين في الوجدان العربي، وعوضاً عن القلق من قوّة الأنظمة العربية صار الكيان الصهيوني يخشى من ضعف الأنظمة. لذلك بدا أنّ "إسرائيل" ساهمت في صناعة البدائل في خضمّ ثورات الربيع العربي، وحالت دون أن تفرض الشعوب ممثّليها. وعلى ضوء هذا فإنّه يَرى في المؤامرة على المنطقة العربية أحدَ شروط وجودها، كأنّ العرب ضحايا لمؤامرات مستمرّة. لكن، إلى جانب ذلك؛ ما لم تكن الشعوب حرّة، وتشعرُ بجدارة الكرامة، فإنّها تعجز عن الانتصار لقضية عادلة وإنسانية مثل القضية الفلسطينية. وقبل أن تكون قضية عادلة وإنسانية، فهي قضية القضايا في العالم العربي، الذي ينوء تحت الاستبداد ويسعى مواطنوه إلى تحقيق حرّيتهم، وتمثيل سياسات أوطانهم تمثيلاً حقيقاً ووطنياً.

ما يحصل في فلسطين هذه الأيام من عدوان صهيوني جديد قد يتوافق مع مقولات البرغوثي أشدّ التوافق، إذ إنّ فلسطين تسكن وجدان الشعوب العربية بصورة جذرية، وهي المسألة التي ترعب "إسرائيل". فاختراق ثقافة الشعوب حيثُ تقيم فلسطين، أمرٌ لا يمكن للكيان أن يحقّقه مهما بَذَل أو أسرف في آمال التطبيع، كما يتأكّد للمستعمرين الصهاينة يوماً بعد آخر أنّهم مجرّد عابرين.


* كاتب من سورية

المساهمون