يخضع الجسد إلى الكثير من القراءات، لا سيّما في الثقافة التي تُعلي من شأن السيطرة عليه أو تأطيره، إمّا تحريماً وإمّا تقديساً. والجسد أكثر الدلالات التي يمكن قراءتها، بتنويعاتها المختلفة، في مسرحية "دنيا" للشاعر والكاتب المغربي طه عدنان (1970)، والتي صدرت نسختُها العربية حديثاً عن "دار الفاصلة للنشر"، فيما صدرت نسختها الفرنسية عن "منشورات لانسمان" البلجيكية المختصّة في المسرح عام 2020، كما عُرضت على خشبة "المسرح القومي الكتالوني" ببرشلونة في شباط/ فبراير الماضي.
بالنسبة إلى دنيا، الفتاة التي تمثّل الجيل الثاني من المهاجرين، ينطوي الجسد على كلّ التناقضات التي رمتها إليها الحياة في بلجيكا، وهي ابنة لمهاجرَين أنجباها عن طريق الخطأ بعدما تقدّما في العمر. في الوقت الذي كانا ينتظران فيه أحفاداً من أحد أبنائهما الستّة، جاءتهما بنت. اعتبراها "حادثة". بالتالي، ومنذ البداية، وجدت دنيا نفسها أمام معادل لغويّ، يهدّد آدميّتها، وحقّها التلقائي الذي وهبتْها إياه الحياة في أن توجد مثلها مثل أيّ إنسان آخر.
تتتالى التهديدات بالإلغاء في فترات لاحقة من حياتها؛ ذلك أنّ انتماءها إلى الجالية المسلمة جعل الآخرين يرونها في إطارٍ مُهدَّدٍ آخر؛ وهو تهديدٌ نشأ من معادلات لغوية أيضاً، إذ أخذت دنيا تردّد ما تسمعه في الجامع عن مصير الكفّار على أصدقائها البلجيكيّين الذين تحبّهم، كي يفعلوا شيئاً ينقذهم من عذاب الآخرة. الأمر الذي أدّى إلى عزلها بسبب كلماتها المتوعّدة، وارتدادها عَقب ذلك إلى بيئة المهاجرين، ثمّ لتجد نفسها تتزوّج صديقها من غير عرس، في زواج أشبه بالصفقة، تقدّم له جسدها مقابل الماريغوانا.
شابّةٌ من عائلة مهاجرة ينطوي جسدُها على كلّ التناقضات
وتجد نفسها عقب ذلك في زواجٍ من غير زوج، فزوجها اعتُقل بعد اتّهامهِ بالقتل، ثمّ غادر إلى "الجهاد" في سورية. وفي هذه المرحلة، يتّضح أيّما اتّضاح، ما يمكن للجسد أن يحمل من دلالات. وليس سلوك دنيا، التي تحوّلت حياتها إلى سعي هوسيّ إلى الأورغازم، إلّا محاولتها دفع التهديد عنها. فهي، ببساطة، تريدُ أن تشعر بلذّة العيش والحرّية على طريقتها.
في سياقٍ كهذا، أي السعي إلى الأورغازم الأمثل مع رجالٍ مختلفين، تشهد المونودراما المسرحية لحظات عاطفية مختلفة. تقترب دنيا من الانهيار في مواقف، وتشرق في أُخرى. وفي هذا إحدى نجاحات طه في تعاطيه مع موضوعٍ تتداخل فيه حقول مختلفة، فاللذّة حقلٌ متنوّع يمتدُّ إلى علم النفس وإلى قضايا الهوية، وإلى الذاكرة الحيّة للجسد أمام التجربة التي يصنعها مع تلك التي كان يأملها. محدّدات عديدة تدخل في الأورغازم المثالي. وبالنسبة إلى مهاجرة، تبدو المسألة أكثر تعقيداً، إذ تفكّر في ما يجعلها جذّابة لدى الرجال، لربّما كان لونها.
تصارع دنيا بصورة دائمة علاقة والديها ببعضهما، وعلاقتها معهما. إذ تبدأ بافتراض أنّهما لم يعرفا الحبّ يوماً، إلى أن تتصالح مع إمكانية وجود حبّ من نوعٍ خاصّ نشأ بين الوالدين منذ كانا في المغرب، ولربما بقي هناك في البيت الذي لن يعودا إليه. وأيضاً النهايات الأليمة لوالديها المريضين تُصالحها معهما، ومع فكرة العائلة والموت ومع الحبّ نفسه. هكذا، يخرج الحبّ بصورة غير متوقّعة، ولا منتظرة، كما لو أنّ الاقتراب من الموت يكشفُ داخل دنيا مساحاتٍ كانت معتمة من جرّاء شعورها العميق بالتهديد، وحاجتها المريرة إلى اكتشاف هويتها في سلوك جنسي، يمكن أن يصلح كإشارة إلى صراعاتها مع ما حمّلها إياه الآخرون كمهاجرة.
في المقابل، كان زوجها يسعى إلى أورغازم من نوعٍ آخر، وهو الموت المدفوع بفكرة مثالية عن القتال في سورية. الأمر الذي ينتهي بصورة انتقامية، ذلك أنّ مسرحية "دنيا" في النهاية، نص عن استخدام الأجساد في معارك متقابلة؛ في حين تطلق دنيا جسدها إلى الحياة، لذّتها الخاصّة، يطلق زوجها جسده إلى الموت، لذّته الخاصّة. وما أن يعود من سورية، حتّى يتحوّل اللقاء بينهما إلى انفجار حقيقي في محطة المترو، كما لو أنّهما تورّطا في مسعيين لا يلتقيان على الأرض. والصفقة التي عقداها في بداية زواجهما، كانت صفقة بين جسدين ينفي أحدهما الآخر بصورة حتمية. فهما ليسا مجرّد جسدين، إنّما داخل كلّ منهما نما فكرٌ ينفي الآخر.
هوسٌ مردُّه الشعور بالتهديد ومحاولتُها دفع التهديد عنها
تفتح المسرحية على القارئ تساؤلات شتّى حيال علاقته مع جسدهِ، ومع وطنه، ومع المنفى والهوية. فالأجساد ليست سوى ألغام، وما من أحد يعرف أوانَ انفجارها وشكله، لأنّها، في الغالب، تنفجر ذاتياً بدافع الأفكار التي يحملها كلّ منا.
يُذكَر أنّ طه عدنان من مواليد مدينة آسفي عام 1970، وهو مقيم في بروكسل منذ 1996. وله إسهامات أدبية عديدة؛ مثل المشاركة في إطلاق نشرة "الغارة الشعرية"، وإدارة "الصالون العربي الأوربي" وتنسيق مهرجان "غزل" للشعر العربي في بلجيكا، وهو أيضاً عضو "ائتلاف شعراء بروكسل".
وإضافة إلى مسرحيتيه "دنيا" و"باي باي جيلو"، أصدر عدنان أعمالاً شعرية، هي: "بهواء كالزجاج" (2002) و"ولي فيها عناكب أخرى" (2003) و"أكره الحبّ" (2009) و"بسمتك أحلى من العلم الوطني" (2016). أعدّ كتابين جماعيين حول الحياة العربية ببلجيكا ("بروكسل المغربية"، 2015، و"هذه ليست حقيبة"، 2016).
* روائي من سورية