منذ تأسيسها، عام 1996، على يد الموسيقار إيمانويل باردون، وفرقة "كانتيكوم نوفوم" الفرنسية (يعني الاسم في اللغة اللاتينية "الأغنية الجديدة") تطوف العالَم وألوانه الموسيقية وآلاته المختلفة. ربما كان من الأدقّ القول إنّها تطوف العالم القديم، باعتبار أنّ الفرقة متخصّصة في الموسيقات الكلاسيكية التي رأت النور منذ العصر الوسيط، والتي ما زالت حيّة، بطرق مختلفة، في الثقافات التي وُلدت فيها.
هكذا، بعد المرور بالموسيقات التي ازدهرت خلال الحقبة العثمانية، في تركيا وإيران، والتي خصّصت لها ألبوم "لقاء" عام 2014، انتقلت الفرقة إلى أرمينيا مع "أرارات" (2017)، ثم إلى إيطاليا ولون اللاودا الروحي الذي عُرف في عصر النهضة ("لاوداريو"، 2019)، قبل أن تحطّ رحالها، قبل أيّام، في العصر الأندلسي مع ألبومها الجديد، "البصمة" (إصدارات "أمبروناي"، 2021).
يضمّ الألبوم تسع عشرة مقطوعةً مغنّاة، من بينها خمسة موشّحات معروفة عربياً، مثل "يمرّ عُجباً" و"زارني المحبوب" و"يا غزالي"، وإلى جانبها اشتغالاتٌ في لغات لاتينية وإيبيرية قديمة، مثل البرتغالية الغاليسية. وتنتمي أغلب العناوين غير العربية التي يضمّها الألبوم إلى أعمال ملك قشتالة بدءاً من منتصف القرن الثالث عشر، ألفونسو العاشر، الذي عُرف أيضاً بكتابته قصائد دينية غنائية، وضعها بالغاليسية البرتغالية تحت عنوان "كانتيغاس دي سانتا ماريا"، وأخرى غزلية حِسّية كتبها ضمن إطار ما عُرفت بالـ"كانتيغاس دي أميغو"؛ كما أنّ ألفونسو العاشر صاحبُ واحدة من أولى الترجمات بالإسبانية القشتالية، عن العربية، لـ"كليلة ودِمنة".
اختارت الفرقة الإبقاء على التوزيع العربي الأصلي للموشّحات
هكذا، يمثّل الألبوم "رحلةً في قلب الأندلس"، كما يقول تعريفه، الذي تشير الفرقة فيه إلى أنّها اختارت الغوص في هذا العصر والفضاء الأندلسيّين باعتبارهما "من أغنى فضاءات المتوسّط وأكثرها إذهالاً" حيث ساهم المزيج الثقافي العربي ـ الإسلامي والمسيحي واليهودي بإنتاج اشتغالات موسيقية "لا قرين لها" حتّى يومنا هذا.
بتنويعه في اللغات والألوان الموسيقي، يحاول الألبوم إعطاء صورة واسعة عن الموسيقات الأندلسية التي ما زالت شبه مجهولة، في الفضاءين العربي والأوروبي، رغم استعاداتها المستمرّة منذ عقود عربياً، ومنذ سنوات في بلدان أوروبا الغربية. لكنْ، بخلاف بعض هذه الاستعادات، التي أعادت توزيع قوالب عربية معروفة لتُلعَب بآلات وأصوات غربية، كما فعلت "فيلهارمونيا باريس" عام 2018 في استعادتها لموشّح "لمّا بدا يتثنّى"؛ فإنّ "كانتيكوم نوفوم" اختارت الإبقاء على التوزيع العربي الأصلي للموشّحات، وتقريباً على الآلات نفسها؛ لا بل إنها استعانت بنسَخ قديمة من آلات وترية، تشبه تلك التي كانت تُستخدم في العصر الوسيط.
أمّا التعديل الأبرز، فهو إحالة الفرقة مهمّة غناء بعض المقطوعات ــ جزئياً على الأقل ــ لأشخاص لا يتحدّثون لغة النصّ المُغنّى، أو لا يجيدون تربيعات الموسيقى العربية، كما جرى مع أداء موشّح "لي حبيبٌ قد سمح لي" الذي لم يؤدّه المغنّي والعوّاد السوري، المشترك في غناء الألبوم، بيان رياض، بل إيمانويل باردون، مسؤول الفرقة الفرنسي.
ورغم مسعاه التوضيحي حول اختياراته ومراجعها، كان للألبوم أن يكون أكثر وضوحاً لو أعطى معلومات أكثر حول المقطوعات التي يتألّف منها، أو لو أشار إلى أنّ موشّحاً مثل "يمرّ عُجباً" لم يجرِ تأليفُه وتلحينه في القرن الثالث عشر، بل في القرن العشرين، على يد السوريين، الشاعر فخري البارودي والملحّن عمر البطش.