في القصيدة الأولى، "موج عكّا"، من ديوان نجوان درويش، "كرسي على سور عكّا"، الصادر عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" و"دار الفيل"، نقرأ:
"لا أستطيعُ إلّا أَنْ أُفكِّر مِثلَ إنسانٍ مجروحٍ بالوجود".
لا نستطيع نحن إلّا أن نفكّر بأن هذا المجروح بالوجود، الذي وجوده نفسُه، ولادتُه نفسُها، جرحٌ، هو كـ"الغريب" و"المستلَب" و"المعمّم"، أنموذجٌ أنطولوجي. الفلسطيني الذي نراه خلفَه، هو، منذ الآن، هذا الأنموذج الأنطولوجي. إنه مأزومٌ منذ كان؛ وجودُه نفسُه سؤالٌ، بل إنه كـ"الغريب" مُهَجَّرٌ دائم، مُهَجَّر في أرضه وبلده، مهجر في ذهابه وإيابه.
"أَتَهَجَّرُكَ وأَنساكَ بَلداً يَتهجّرُ
مِنْ تلقاء نَفسِهِ
بلداً هوَ الهِجران نَفسُهُ".
إذا كان البلد نفسه مهاجراً أبدياً، إذا كان ليس سوى الهِجران، فإنّ الذَّهاب الفلسطيني، كما عَوْدتُه، مجرّد فصلَيْن في هذا الهِجران. إنّهما الشيء نفسه لا يزال يتكرّر ويتواتر؛ هذا الرحيل الأنطولوجي يدمغ وجود الفلسطينيّ كما يدمغ حياته، إنه يتحوّل بذلك الى عنصر في كينونته، إلى اسمٍ آخر، إلى تعريف له.
"قلتُ لها رأَيتكِ دائماً ترحلين ودائماً تَرْجِعين
لا رحيلُكِ رحيلٌ
ولا رُجوعُكِ رُجوع
لا الأرضُ تحمِلُكِ
ولا السَّماءُ تُغطّيكِ".
يمكننا إذن أن نضع "المهجّر" قبالة "الغريب" اسماً آخرَ وأنموذجاً أنطولوجياً للفلسطيني. لا ننسى أن ديوان نجوان درويش هو "كرسي على سور عكّا"، إنه من الداخل الفلسطيني، من فلسطين نفسها. نحن هكذا أمام شعر من داخل المعاناة المستمرّة لفلسطينيّي الداخل منذ احتلال فلسطين. هذه المعاناة التي أطلقت الموجة الأولى من شعراء فلسطين، موجة درويش والقاسم والشعراء الآخرين.
تتحوّل القصيدة إلى تأمُّل، إلى وقوف، إلى سؤال في الأساس
نجوان درويش، المولود في القدس المحتلة بعد ثلاثين عاماً من سقوط فلسطين، هو من الموجة الثانية أو الثالثة، وهذه لم تتّضح قسماتُها بعد، فهناك أيضاً التيار الشعري العربي الذي لا بدّ أن لها مكاناً فيه، لا بدّ أنها تمتّ إليه وتأخذ منه. لا نستطيع، بالطبع، أن نجد إطاراً عامّاً للموجة الأولى، فهي من شعراء لكلّ منهم غناؤه ولغته وعالمه، وهم يتفاوتون ويتنوّعون حتى في تناولهم للمسألة الفلسطينية.
لكن في وسعنا القول عن هذا الجيل، الذي عايش السقوط واستمرّ بعده، إنه وُلد في إبّان المعركة ونضجَ ما بعدها، لكنّها كانت لا تزال في الذاكرة ولا تزال أصداؤها حاضرة. يمكننا لذلك أن نقول في شعر هؤلاء بعامّة إنه شعر المعركة، المعركة التي استمرّت، وإنْ خياليّةً أحياناً. المعركة التي تتطلّب الحماسة والإصرار، بقدر ما تتطلّب المراثي للمستشهدين والضحايا، وهي أيضاً قد تلوّح بالنصر ولكن قد تقع على الهزيمة، وقد تتحوّل، كما هي الحال عند محمود درويش مثلاً، إلى غناء للهزيمة.
أمّا شعر الموجة الثانية أو الثالثة، فهو، كما يتجلّى في شعر نجوان درويش، وخاصّةً في ديوانه الأخير الذي نحن بصدده، شعرٌ لا يزال السؤال الفلسطيني يمثُل فيه؛ لم يعد شعر معركة، إنه بكلمة شعر ما بعد المعركة، بعد الحماسة وبعد الهزيمة. سؤال الفلسطيني يتحوّل الآن إلى سؤال الوجود. لسنا في المعركة، لكنّنا أفراد، أفراد وحيدون حتى في المقبرة: "حتّى في المقبرة أِقفُ وحيداً".
"الشقاء يُجدِّد شبابه"، كما في قصيدة، والبلد يتحوّل إلى قَدَر قاتل، إلى ما يشبه عدواً: "البحرُ الذي أَحبَبتُهُ أَغرَقَني مِراراً".
لسنا هناك "سوى الأسلاف المضطجعين في غبارهم"، ولسنا فقط مهجّرين في بلدنا، لسنا فقط وحيدين في المقبرة، فنحن "أشباح ها هُنا". نحن لسنا فقط في ما بعد المعركة، ذلك أن "كرسي على سور عكّا" قد تكون بعبارة أخرى "الوقوف على سور عكّا"؛ ها هنا نحن أمام الأطلال بدلاً من المعركة. نحن فقط في هذه المقدّمة أو في السؤال الطَّللي: "هَل غادر الحَيفاويّونَ مِنْ مُتَرَدَّمٍ؟".
هذا قد يكون مفتاحاً لقراءة أُخرى للديوان، قد يكون مفتاحاً لقراءة أُخرى للقصيدة الفلسطينية في سؤالها الراهن. ديوان نجوان درويش يقف عند السؤال، القصيدة نفسها هي هذا السؤال، النثر هو هذا الغناء الآخَر، بحيث تتحوّل القصيدة إلى تأمُّل واحد، إلى وقوف واحد، وبكلمة أخرى: سؤال في الأساس.
* شاعر وروائي من لبنان