إذا كان عنوان كتاب الشاعر الفرنسي بول إيلوار يخبرنا أن باريس هي "عاصمةُ الألَم"، فإن المدينة الفرنسية كانت أيضاً، بين أمور أُخرى، عاصمة الفنّ على حساب قريناتها من المدن الغربية، ولا سيّما بين مطلع القرن الماضي وسبعينياته، حيث كانت المدينةَ التي قصدها عددٌ كبير من الأسماء التي لعبت دوراً أساسياً في تشكيل صورة الفنّ العالمي خلال هذا القرن.
ويكاد القسم الأوّل من القرن الماضي يجتذب جلّ الأضواء في هذا السياق، حيث يجري التركيز على مرور فنّانين بارزين، مثل بابلو بيكاسو وأميديو موديلياني، بالمدينة التي كان يقيم فيها أغلب الفنانين الفرنسيين البارزين، مثل ألبير ماركيه وجورج براك. على أن هذا التركيز على الفترة بين مطلع القرن وبداية الحرب العالمية الثانية يُعطي فكرة عن "انطفاء" المدينة فنّياً بعد الحرب، وهو ما لا يتطابق مع الواقع.
"باريس ولا مكان آخر" هو عنوان معرض يستضيفه "متحف تاريخ الهجرة" في العاصمة الفرنسية منذ السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي وحتى كانون الثاني/ يناير 2023، ويسلّط الضوء على الغليان الفنّي الذي شهدته المدينة بين عامَيْ 1945 و1972.
يضمّ المعرض أعمالاً لأربعة وعشرين فنّاناً هاجروا إلى باريس واتّخذوا منها مكاناً للعيش، مؤقّتاً أو دائماً، بعد أن قصدوها لأسباب تمتدّ من اللجوء السياسي إلى الدراسة. وتنتمي الأسماء المعروضة أعمالها إلى أربع جهات الأرض، مثل اللبناني شفيق عبّود، والمغربي أحمد الشرقاوي، والأرجنتينية أليسيا بينالبا، والسنغالي إيبا ندياي، والبرتغالية هيلينا فييرا دا سيلفا، والصيني زاو ووكي.
ويشترك هؤلاء الفنّانون، وغيرهم من الأسماء المشاركة، في أن العاصمة الفرنسية شكّلت إمّا لحظة انطلاق فنّي لهم، أو مسرحاً بلوروا فيه تجاربهم وشكّلوا أصواتهم الخاصّة، أو مكاناً قصدوه لتعميق معارفهم الفنّية والاطّلاع على تجارب راهنة، كما فعل، على سبيل المثال، التشكيلي المغربي أحمد الشرقاوي حينما قصد باريس عام 1956، حيث زار العديد من مراكز ومعارض الفنون، وترك أثراً فيها ما يزال ماثلاً حتى اليوم (أعماله مقتناة من أكثر من مركز ثقافي في باريس، مثل "معهد العالم العربي" و"متحف الفن الحديث").
ومن المعطيات الطريفة التي يقدّمها منظّمو المعرض إحصائيةٌ تفيد بأن المدينة شهدت ــ بين عامي 1945 و1972 ــ نشاط ما يقارب 15 ألف فنّان تشكيليّ فيها، تراوح نسبة "الأجانب"، أو غير الفرنسيين، ضمنهم بين 60 و65 في المئة، وهو ما يعطي صورةً عن موقع باريس في المخيال الشخصي لدى المبدعين في ذلك الوقت، وكذلك عن دور هولاء "الغرباء" في بناء سمعة المدينة وحياتها الفنية اليومية طيلة عقود.