فرضت سياقات الجائحة العالمية على المفكّرين أجندات بحثية جديدة، لنجد صعود الكثير من القضايا التي كانت تبدو على هامش الكتابة الفكرية، مثل سياسات الصحة العمومية، والقيم التي باتت تحتاجها البشرية اليوم، كما ظهر أن التفكير في مستقبل البشرية لم يعد ترفاً لا يتصدّى له إلا كبار المفكرين بل بات من أولويات الحياة الأكاديمية، وحتى من خارجها.
"مستقبل البسطاء: مصنّف موجز عن المقاومة" عنوان عمل جديد للكاتب الفرنسي جان رُوُو (1952) صدر حديثاً عن منشورات "سوي". ومن اللافت أن موضوعاً كهذا لا يتناوله باحث في علم الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة، بل كاتب معروف بتنوّعه وفسح المجال للتجربة الشخصية في أعماله.
أهم ما يلفت في رُوُو أنه يأتي من بيئة العمل البسيطة وهو الذي عُرف بامتلاك كشك لبيع الجرائد، وقد جعل منه موضوع كتاب في السيرة الذاتية بعنوان "كشك" نال عليه جائزة الغونكور في 1990، ومن ثمّ أصبح مؤلفًا شهيراً في بلاده، ومن أبرز أعماله: "يوميات 2015 على ضوء 1905"، و"قليل من الحرب"، و"بؤس الرواية".
في كتاب "مستقبل البسطاء: مصنّف موجز عن المقاومة"، يقدّم المؤلف قراءة حول واقع البشرية اليوم في ظل هيمنة الشركات الكبرى، والتي يُسميها "الوحوش"، كما يدين "الأوليغارشيا المالية" التي حوّلت كل شيء إلى أرقام يستفيد منها قلّة.
تبدو مقاربة روو هنا اقتصادية لكنها سرعان ما تعطف على إشكاليات أوسع ومنها العجز السياسي أمام فيروس كورونا، والذي يمثّل تمظهراً لخلل في العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة، وخلل في إدارة الأزمات الكبرى وقبل ذلك الاستعداد لها من جهة أخرى.
يرى روو أن تغييراً جذرياً ينبغي أن يبدأ من خلال عامة الناس، ضارباً مثال "مذبحة الحيوانات" التي يمكن إنهاؤها في حال خفّف البشر استهلاكهم للحوم، وهو أمر لا يمكن تحقيقه من دون تغيير عام في سياسات الغذاء وفي أنماط السلوكيات الاستهلاكية وفي المنطق الدعائي الذي تعتمده الشركات الكبرى فتنتج الرغبات ومن ورائها النزعات الاستهلاكية المفرطة.