"مودة الغرباء": مذكرات وسِيَر وما بينهما

23 فبراير 2022
تحضر سيرة الإعلامي عارف الحجاوي ضمن الكتاب (العربي الجديد)
+ الخط -

يحظى فن السيرة الذاتية باهتمام متزايد من القرّاء، فهو يتيح اكتشاف حياة حقيقية كاملة تُسرد أمام قارئ يريد أن يعرف أكثر عن كتّاب الأدب والسياسة والتاريخ، وأن يرى المشاعر الإنسانية المختبئة وراء الكلمات والحروف.

تمتلئ جعبة كتاب "مودة الغرباء" للكاتب المصري محمد عبد العزيز الهجين، الصادر عن "دار جسور للترجمة والنشر" (بيروت 2020)، بمجموعة من السير الذاتية والمذكّرات والتراجم لشخصيات فكرية وأدبية، أُتيحت له قراءتها والكتابة عنها وجمعها خلال ست سنوات. وهو عندما يعطي كتابه هذا العنوان، فإنه يضمن لقارئه أن يستمتع بصحبة الفكر والأدب وما تتضمّنه هذه السير من حيوات حافلة تقدّم عصارة تجربتها الحياتية.

يعترف المؤلّف، في مقدمته، بأن القانون الذي استند إليه في كتابه هو "الفوضى الخلاقة"، لأنه مزيج متنوّع يجمع أشتاتاً مجتمعات، ففيه السير الذاتية التي كتبها الأدباء بأقلامهم، أو السير التي كُتبت عنهم، والتراجم، والكتب التي راقت له، أو الشخصيات التي التقاها وتركت أثرها في نفسه. وهناك كتب كانت تقود إلى كتب أُخرى فيهتم بها، أو حديث عن مدينة فيهتم بمن كتب عنها كإسطنبول مثلاً. وهكذا تتنوّع المسارات وراء الاختيارات وظروفها، وتنتج في النهاية تشابكات معرفية متنوّعة، تثير فضول القارئ للعودة إلى الكتاب الأصلي، بما قدّمه المؤلّف من عرض له وإضاءات لما فيه.

قسّم المؤلف كتابه إلى خمسة فصول. ضمّ الفصل الأوّل حكايات من بداية القرن العشرين، والثاني والثالث سيراً ومذكرات، والرابع سير المترجمين، والخامس قصص الأدباء.

تثير العروض فضول القارئ وتنبِّهه إلى الكتاب الأصلي

من كتب المذكّرات: "عالم الأمس" للكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ الذي شهد سقوط الإمبراطورية النمساوية، وفيه يصف حياته قبل الحرب العالمية الأولى، عندما كان الناس يعيشون عصر الأمن الذهبي والشعور العظيم بالأمان، الذي وفّرته الليبرالية في القرن التاسع عشر، معتبراً أن الناس قد امتلكوا الوعي والتنوير الذي سيعصمهم من تكرار أخطاء العصور السابقة، تلك التي شهدت الحروب والمجاعات، وقد تسلّحوا بعقيدة الإيمان بالتقدّم وهم يشهدون منجزات العلم والتقنية. كان اهتمام الناس، في مدينته فيينا، ينصبّ على المسرح والموسيقى والفنون، ويطغى على كل اهتمام بالسياسة وأخبار العالم. كل ذلك تغيّر مع اغتيال إمبراطور النمسا والحرب العالمية الأولى، والتي استُثمرت فيها منجزات العلم والتقنية. والكاتب شاهد محبَط على هذه المرحلة التي تخصّ أوروبا، والتي ستدفعه في النهاية إلى الانتحار.

ومن الضفّة المقابلة في العالم، يختار المؤلّف كتابَ "عام الجراد: يوميات جندي مقدسي عثماني"، للجندي الفلسطيني إحسان حسن الترجمان الذي شارك في الحرب العالمية الأولى في القدس، وكتب يومياته في هذه الفترة المفصلية بين انهيار الحكم العثماني في بلاد الشام والقادم الأسوأ مع الحكم البريطاني الانتدابي. وأتت كتابته لتكون تاريخاً موازياً يصنعه الناس العاديون؛ فهو جندي بسيط في الحادية والعشرين من العمر يعيش مظاهر الحرب على حقيقتها ويشهد تحولات تربك هويته، ولكنها لا تمنعه من كراهية جمال باشا وقيادات "الاتحاد والترقّي" وتساؤلاته عن مصير الدولة العثمانية. وبعد وفاته لم تُنشر يومياته، بل ظهرت في أرشيف "الجامعة العبرية" في قسم "الأملاك العربية المتروكة"، عندما تم الاستيلاء على 12 ألفاً من المجلدات والمخطوطات من البيوت العربية، ومن ضمنها بيت الترجمان، وقام سليم تماري بتحقيقها ونشرها.

غلاف

أمّا سيرة الإعلامي عارف الحجاوي الذي أمضى عمره في حبّ اللغة العربية ومحاولة خدمتها، فهو ينطلق من الهواية الفلسطينية التي أرشده إليها جدّه، وهي التعليم كطريق معرفي سلكه لأربعين سنة في الإعلام والأخبار والإذاعات والتلفزيونات، ونسج من سيرته قصصا وحكايات تطاول حبّه للتاريخ والكتب والموسيقى. وأهمّ ما قام به عرضه الشعر العربي القديم، ضمن سلسلة عن الشعراء ومختارات من أشعارهم ومجلّدات عن الشعر في كل العصور ضمن موسوعة بأجزائها الخمسة، معتبراً أنّ الشعر يصف الروح والعقل العربيّين.

ويقدّم سومسرت موم في كتاب سيرته، "عصارة الأيام"، المواضيع التي شغلت تفكيره في الحياة وجعلته ينوّع في الفنون التي كتبها من الرواية إلى القصة والمسرح ثم السيرة الذاتية، وفيها يكشف كيف وضع خطة لحياته أراد فيها أن يكون كاتباً، ورغم دراسته الطب وممارسته وما قدمه له من فهم لطبيعة الإنسان العارية، إلا أنه سيتّجه نحو الكتابة، تلك التي أراد أن تكون واضحة مستندة إلى الجهد والنظام القاسي. وهو في الحياة لا يندم على أخطائه التي ارتكبها، معتبراً أنها علّمته التسامح مع الآخرين، كما أنه يعيش الحياة بكلّيتها ويجعلها مادة للتأمّل والتفكير، ويخبرنا أن الهدف من الحياة هو ممارسة الحياة وكفى. أمّا الثقافة فتكمن أهميتها في تأثيرها وسموّها بشخصية الإنسان ومدّه بالقوة ودفعه لفعل الخير. كل ذلك بلغة جميلة تحمل متعة الصدق في تتبّع الخصوصية الإنسانية.

أما مذكّرات المخرج الإسباني لويس بونويل، "أنفاسي الأخيرة"، فقد انطلقت من حادثة فقدان والدته لذاكرتها وخشيته من ضعف ذاكرته، ما دفعه إلى الكتابة للقبض على ذكرياته، فيذكر ولادته في قرية منعزلة في إسبانيا عام 1900، والتي عرفت أول سيارة عام 1919 ولم تعرف الغرباء يوماً، ولكن انتقاله إلى مدريد للدراسة أتاح له حياة أخرى بلقاء الأدباء والفنانين، حيث عاصر لوركا ورفائيل ألبرتي وسلفادور دالي وعاش حياة صاخبة، وسرعان ما سيجد حياة أكثر تحرراً في باريس التي تدهشه بانفتاحها الاجتماعي وتصدُّرها كعاصمة للفن في العالم. ثم ينتقل إلى هوليوود في الولايات المتحدة، وهناك يتعرف إلى شارلي شابلن، مفصلاً في حياته وتجربته في تلك الفترة، وكذلك كتابته وإخراجه لأفلامه العديدة التي حققت شهرته، مما يجعلها مذكرات غنية لحياة خصبة مثّلت عصراً بأحداثه وشخصياته وسماته.

ويضيء المؤلف، في الفصل الرابع، على سير بعض المترجمين الذين أغنوا المكتبة العربية بترجماتهم. ينطلق بداية مع عادل زعيتر، شيخ المترجمين وابن نابلس الذي وُلد 1897 ودرس الحقوق في فرنسا وكان عضواً في مجمعي اللغة العربية بدمشق وبغداد، وبدأ مشروعه الثقافي في الترجمة منذ 1946، بترجمة الكتب التي انتشرت في القرن الثامن عشر عصر الأنوار، حيث كتابات روسو ومونتسكيو وفولتير التي تمثل ذهنية تلك الحقبة وأثرها في تاريخ أوروبا الفكري ومقدّمة لثورتها، وكانت إضافة للتاريخ الثقافي العربي المعاصر بفضل معرفته للفكر الغربي. كما ترجم كتابات المؤرّخ الفرنسي غوستاف لوبون، الذي كتب عن حضارة العرب وغيرهم وحاز اهتمام المثقفين العرب، كما ترجم العديد من كتب التراجم لبعض الشخصيات التاريخية. وقد تميزت ترجماته بأمانة النقل والدقة وجمال وعمق اللغة التي منحها من روحه ليجدّد روح أمته وثقافتها.

ولا يغفل المؤلف ذكر السوري سامي الدروبي، مترجم دوستويفسكي الذي وصفه طه حسين بأنه مؤسسة كاملة. وكانت زوجته إحسان بيات قد سجلت ذكرياتها معه في كتاب سردت فيه تجربة زوجها في الكتابة والترجمة والعمل الدبلوماسي والسياسي. وتذكر كيف استهواه دوستويفسكي بنزعته الفلسفية ومعاصرته الدائمة، فترجم أعماله الكاملة. وفي زيارته للاتحاد السوفييتي تتبّع الأماكن التي ذكرها في رواياته ثم تحمّس لترجمة تولوستوي. وفي يوغسلافيا السابقة، تعرّف إلى كتابات أيفو أندريتش وترجم له "جسر على نهر درينا"، إضافة إلى ترجماته في حقول معرفية مختلفة كالسياسة والفكر. وكانت سعادته كبيرة عندما عمّمت وزارة التربية في سورية كتابه المترجم "الموسيقي الأعمى" في مناهج الصف الثالث الإعدادي، حيث اعتبره أكبر أجر يحصل عليه. وقد أنجز كل تلك الترجمات مع عمله الدبلوماسي في أكثر من بلد، وبقي يترجم ويعمل حتى آخر أيامه، متشبثاً بشغفه ومثبتاً إخلاصه في عمله، وهو يهدي المكتبة العربية ثروة يفخر بها التاريخ.

خمسة فصول تجمع سير أدباء ومترجمين وحكايات من مطلع القرن الـ20

كما يضيء المؤلّف على تجربة المترجم طلعت الشايب الذي التقاه عدّة مرات في مؤتمرات الترجمة وأُعجب به، ولفته أنه يحمل معه آخر إصداراته ليهديها للأصدقاء. تنوعت ترجماته بين الكتب الفكرية ككتاب "المثقفون" لـ بول جونسون الذي يفضح تناقضات المثقفين، بداية من جاك روسو إلى نعوم تشومسكي و"الاستشراق الأميركي" و"صِدام الحضارات"، إلى ترجمة الأدب كرواية "البطء" لميلان كونديرا و"الملاك الصامت" لـ هينريش بول، ومجموعة كبيرة من الكتب الأدبية والفكرية. وتكمن أهمية هذا المترجم في حرفيته العالية واجتهاده، إذ كان يجهد في تحضير الكتب والدراسات حول موضوعه المترجم لكي يمتلك عدة ثقافية تساعده في عمله، ويحرص على ترجمة ما يعجبه ويوافق ذوقه وعقله. كل ذلك باجتهاد وإخلاص وتمكّن في اللغة العربية.

ويعرض المؤلف بإعجاب سيرة عبد الوهاب المسيري بعنوانها الغريب "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار: سيرة غير ذاتية وغير موضوعية"، تلك السيرة الغنية التي منحته آفاقاً عديدة كعناوين كتب وفلسفة للحياة وموقفه من الدين وأسماء مفكرين. وكانت أول دروسه منهجه في التفلسف وتحليله لحياته، حيث يذكر دراسته في أميركا ورؤيته لهذا الفردوس الأرضي، وظروف كتابة موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، إضافة إلى حديثه عن كثير من أفكار النقد الأدبي والشعراء بأسلوب جميل.

هذه بعض من السير والشخصيات التي حفل بها الكتاب، وهي نماذج مصغّرة عن جهد المؤلف وصورة لشغفه الأول في الحياة مع عالم الكتب. فهو يروي كيف كان يقرأ فصلاً من كتاب قبل امتحاناته ليبعد عن نفسه قلق اللحظة، وكيف يشتري كتاباً بكل ما في جيبه من نقود، غافلاً عمّا يحتاجه من مواصلات للعودة إلى بلدته، وعن تحقيق رضاه الذاتي بامتلاكه الكتب. ثم يأتي البحث عن أصدقاء ليتشاركوا النقاش حول ما قرأوه. حياة تستمد مفرداتها من الكلمات والأفكار لتغتني بها، وهي تريد أن تنقلها إلى القارئ وتنقل متعة الاغتناء بتجارب وحيوات مفكرين بسطوا أمام القارئ طريقهم في الحياة بكل محطاته المتعثرة والناجحة، بأسلوب يترك التأثير والتفكير في عقل القارئ وقلبه. كما يشير إلى اهتمامه الموازي بحياة المترجمين، الذين يعيدون خلق النص بإبداعهم، ويعملون بصمت في الوجه الآخر للكتاب كجسر ثقافي يتيح الوصول إلى عوالم جديدة، بما يجعل "مودّة الغرباء" تتويجاً للمشترك الإنساني بين الكاتب والقارئ.

* كاتبة من سورية

المساهمون