"بلا وداع بلا جذور بلا أثر"، عند هذه العبارة تنتهي تقريباً رواية محمّد أبي سمرا "نساء بلا أثر" الصادرة عن دار "رياض الريس" في بيروت. إذا رجعنا إلى عنوان الرواية، يتراءى لنا أنه يكاد يكون عِبرة الرواية أو خلاصتها. إنه إذ يخطر لماريان، بطلة الرواية وراويتها ونموذجها الأساسي، فإنه لا يختصر حياتها وحدها بقدر ما يختصر حيوات النسوة اللواتي جئن من بلدان عدّة، ليجتمعن ثانيةً في بيروت، ليصبح بذلك خاتمةً، لا للرواية وحدها، بل أيضاً لحياة البلد الذي جئن منه ومن سواه، وهنّ اللواتي تنقّلن بينه وبين خارجه.
لكأنّ هذا اللاأثر يطاول، لا سير النسوة المجتمعات فحسب، بل تاريخ وسيرة البلد الذي دارت الرواية حوله: لبنان، وإذا شئنا أن نعيّن أكثر قلنا: بيروت. لا يطابق تاريخ النسوة تاريخ البلد إلّا من بعيد، فهنّ ينتمين ولا ينتمين إليه بالدرجة نفسها، كذلك هو حال ماريان، لكنّ هذا البُعد فِقَريّ وأساسيّ في الرواية. إذ إن أرمنيّة ماريان، شأنها شأن سوريّةِ وجزائرية وعُمانية ولبنانية الأخريات، تجعل لهنّ موقعاً أساسياً في النظر إلى لبنان. إذا تذكّرنا قولاً يقرّر أن الشاعر أجنبيُّ لغته، فإن هذا قد ينطبق على الروائيّ إذا كانَه محمّد ابي سمرا.
"نساء بلا أثر" هي تقريباً رواية نساء. بطلاتها ينظرن من أجنبتهنّ إلى لبنان، لكنّ ماريان وبقيّة النسوة لسن أجنبيات عن لبنان فحسب، فهنّ أجنبيات أيضاً عن مصادرهنّ ومساقط عرقهنّ وتاريخهنّ. الأرمنية أجنبية عن لبنان، لكنّ هذه الأجنبة هي مقدّمة لأجنبتها عن أرمينيا وعن الأرمن، وستكون هذه الأجنبة حال السورية والجزائرية والعُمانية واللبنانية. بل إن الأجنَبَة ليست حال هؤلاء بالنظر إلى بلدانهنّ الأولى ومساقطهنّ؛ إنها أيضاً حالهنّ تجاه بلدانهنّ الثانية، بل وانتماءاتهنّ كلّها. إننا لا نزال نجد أن هذه الأجَنبَة جوهر سلوك ماريان، مثلاً، تجاه "الحزب الشيوعي اللبناني" الذي اختارته وانضوت فيه، لكنّنا لا نزال نشعر بأنها في الأساس داخله وخارجه. لا نزال نشعر بأنها أجنبية في ذلك، شأنها شأن بقية المواقع. إنها شيوعية مضادّة، إذا جاز التعبير، من دون أن يكون هذا موقفاً صريحاً ومعلناً. إنّها أجنبية تجاه "الحزب الشيوعي،" شأنها تجاه لبنان والأرمن ولوس أنجلس وباريس.
نساء الرواية لسن أجنبيات فقط عن لبنان، بل عن بلدانهنّ
مع ذلك فإن ماريان هي القمينة برواية لبنان الحديث، بل نحن نشعر بأن أجنَبَتها تجعلها أكثر أهليّةً لهذه الرواية، بل إنها تجعل الروائي نفسَه أجنبيَّ بلده، وهو بهذه الصفة يختار موقعه كروائيّ، بل هو روائي على هذا الأساس. لا تفعل الحياة، بل تفعل الرواية نفسها، سوى تغريب متّصل للرواية والراوية. يكاد هذا أن يكون شرطاً لهما. هذا الانفصال الذي يكاد يكون موضوع الرواية، يكاد يكون سياقها الموصول، بل ويكاد يكون عصَبها وفحواها. ماريان، في ما ترويه، لا تفعل سوى أن تنفصل شيئاً فشيئاً، وفي كلّ جملة وكلّ ملاحظة.
هذا الانفصال هو موقعٌ أكثر منه موقفاً. ليس صراعاً ولا نزاعاً ولا خروجاً ولا انتفاضاً أو تمرّداً. إنه موجود في الأساس، والرواية لا تفعل سوى أن تستعيده وتبسّطه، تقريباً في كلّ خاطرة وكلّ ملاحظة. الرواية هي هكذا سياقُه وتواصُله وتتابُعه. إنه ليس وليد محاكمة مباشرة، أو موقف نقديّ من الوضع والواقع اللبنانيين. إنه أكثر إصالةً من ذلك.
يمكننا أن ننعت هذه الأجنَبَة، دون حرج، بالأصالة. أجنَبَة شخصيات "نساء بلا أثر" تمنحها هذا الانفصال عن الواقع والتردّي في هذا الانفصال، وكأنّ هذه الأجنَبَة لم تكن عبثاً؛ لقد كانت شرطاً وربما رمزاً أو مجازاً لهذا الاغتراب عن الواقع اللبناني، وليست هكذا إلّا لتعطي أصالةً وأساساً وحقيقةً ــ إذا جاز التعبير ــ لهذا الانفصال الذي يجد فوراً معادلاً نفسياً وفكرياً، بل ومعادلاً جسدياً.
"طريق الإهمال والمهملات... وسط عراء سهل تيبّست أعشابه، طريق السخام والغبار واليباس". هذا المقطع في أواخر الرواية يؤشّر عليها كلّها. إنها لا تروي الواقع اللبناني بقدر ما هي رؤية مضادّة لهذا الواقع؛ نوع من كتابةٍ إنكارية، نوع من سلبٍ كامل له. من هنا فإن الرواية ــ على طول الـ300 صفحة التي تشغلها ــ تفعل هذا الانفصال في كلّ جملة وكلّ خاطرة. إنه اللاأثر الذي تصنعه عبارةً بعد عبارة، فالرواية هكذا هي هذا السلب المتّصل، إنها نوع من الكتابة بالإنكار، بالتنصّل، الكتابة بالمحو.
الرواية تؤسّس، على طولها، حياةً كاملة في مواجهة واقع يجري رفضه بالحسّ والجسد والفكر. تؤسّس هكذا حياةً مضادّة لا نعجب حين تصفها في نهايتها بأنها بلا أثر، لا نعجب؛ فهذا اللاأثر ليس فقط حياة الأشخاص الذين يشغلون الرواية، إنه في نهاية الأمر كلّ ما بقي لنا من هذا الواقع، كلّ ما عشناه فيه.
* شاعر وروائي من لبنان