مؤخراً، ترجّل آلان راي (1928-2020) عن صَهوة المَعاجم، التي استَقَلَّها مَركبًا معرفيًّا، طيلة حياته التي ناهزت الاثنيْن وتسعين عامًا، منها سبعة عُقود كاملة جاب خلالها أقطارَ لغة موليار ومنها سافر إلى روافِدها النّابعة من الثقافة الكونيّة.
الرّجل "غنيٌ عن التعريف" في فرنسا، لأنَّه أبو مَعاجمها ومرجع التعريف في بيان الكلِمات الفرنسيّة وجذورها وتطوّرات معانيها. اشتَهر بكُتُبه العالِمة كما بأبحاثه التبسيطيّة التي كتَبها جمعًا بين الصّرامة والجماليّة والوضوح، كما اشتهر لدى المستمعين بصوته الهادئ الرخيم، الذي رافقهم على أمواج أثير إذاعة "فرانس-أنتَر" طيلة خمسة عشر عامًا (من 1993 إلى 2006) يشرح لهم، بمعارفه الموسوعيّة، دلالات الكلمات وايتيمولوجيتها، في برنامج صباحيّ، له منه فقرة: "كَلمة الختام".
كانت بداية هذا المعجمي استجابةً عفويّة لإعلان صغيرٍ ظهر في جريدة "لوموند"، سنة 1950، كان قد أطلقه المعجمي والناشر بول روبار (1910-1980)، وهو يبحث فيه عن مترشّحين لإنجاز معجم جديد، تتفاعل فيه المفردات مع بعضها، عبر نظام التناص والإحالة، كما يستوعب الكلمات الجديدة التي طرأت على اللسان الفرنسي وكانَ وقتَها في ذروة التوليد، غداة حرب عالميّة، الثانية، فجَّرت الصناعات وحوّلت وتائر المعيش اليومي. قُبل ترشُّحه، فكان ثالث ثلاثة شاركوا في تحرير "روبار الكبير"، الذي صدر بين سنتَي 1953 و1960 في ستة أجزاء. ثم تعاقبت الأعمال المعجميّة الأخرى مثل "روبار الصغير"، سنة 1976، وهو بمثابة تهذيبٍ لسابقه وتلخيصٍ. وما لبث أن أتبعهما بــ"روبار أسماء الأعلام" الذي جمع أهمّ الوجوه الثقافيّة والتاريخيّة والسياسية بفضل مَجهود دؤوب.
يُحسب له تخلّصه من المركزية الثقافية والصفويّة الزائفة
وفي سنة 1979، أصدر راي "معجمَ العبارات الجاهزة والصّيغ المسكوكة"، وهو قريبٌ، في ثقافتنا التراثية من "مَجمع الأمثال" للميداني، وقد تتبّع فيه الصيغ الجاهزة وشرحَ سياقاتها وأبان عن استخداماتها وآثارها التداوليّة. وتمثل سنة 1992 منعطفًا خطيرًا في نتاجه الغزير، حيث صاغ "المعجم التاريخي للغة الفرنسية"، وهو عمل ضخمٌ، يُشبهه إلى حدٍ كبير، "مُعجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، وفيه حلّل طبقات المعنى التي تراكمت طيلة عشرة قرونٍ فالتصقت بالكلمات الفرنسيّة التي حلَّلَ منها ستّين ألفَ نموذجٍ، كاشفاً لأطوارها التاريخيّة والدلاليّة. كل كلمة سرديّة متقنة مُفصّلة.
ومن اللافت أنّ هذه السيرة الحافلة قد خُتمت بمعجم يهمَّ القارئَ العربي، ونأمل أن يُنقل سريعًا إلى الضاد، وهو كتاب "سفر الكلمات من المشرق العربي والفارسي نحو اللغة الفرنسية"، الصَّادر سنة 2013، والذي استعرض فيه، بعلمٍ غَزيرٍ، كنوزَ الكلمات العربية التي أثْرَت الرصيد اللغوي والذي مَكَّن أجيال الفرنسيين، طيلة قرون، من تسمية أشياء العالم، عطفًا من الأرض إلى السماء ومن العلوم إلى العقائد، ومن مواد الطبيعة إلى أنسجة الملابس، في ساحات الوغى كما في مَراح السلام، قِطاعاتٍ ضمّت كلماتٍ، بَرهن آلان راي أنها سافرت من الضاد، عبر إيطاليا وإسبانيا في العصر الوسيط، فاقتَرضها الفرنسيون ليسمّوا بها أشياءَ عالَمهم وهي تفوق الألف كلمةٍ عدًّا استعادَ تاريخَها المعجميُّ الفرنسي في أسلوب يكاد يَكون روائيًّا.
وأما أطرف ما كتبه فهو "المعجم العاشق للشيطان" (2013)، والذي جمع فيه كلّ المداخل المتعلقة بهذا الرمز الذي تكفل بالشرّ المطلق في تاريخ البَشر ومجتمعاتهم، فتابع ما صاغه عنه الشعراء والفلاسفة والرسّامون واللغويون وقسّمه إلى مَداخِل قاموسيّة، في عَملٍ يقرب من كتاب عباس محمود العقاد؛ "إبليس".
وقبل هذا الكتاب وضع راي "المعجم العاشق للمعاجم" (2011)، ضمن سلسلة معروفة تُصدرها منشورات "بلون"، وهو عمل يتناول فيه عالم القواميس من زاوية ذاتية تضيء علاقة المعجمي بأدوات مجاله. ولنا أن نذكر أيضاً مشروعه في تخليص صناعة القواميس من تقليديّتها والذهاب بها إلى صرامة العلم وهو ما شرحه في كتابه "من صنعة المعاجم إلى علم للكلمة" (2008).
هكذا، انطفأت أكثر من سبعة عقود في خدمة الكلمات الفرنسية وتأصيل تاريخها واستقصاء طبقاتها الدلالية وإيحاءاتها، قَضاها هذا الرجل، في تواضع جَمّ ازدانَت به مسيرته، مع انفتاح لافت على ثقافات الآخر ومتغيّرات التاريخ، بعيدًا عن الصّفويّة الزائفة، قريبًا من كل تجليات اللسان حتى "المنحرفة" منها، تلك التي طالما ألصقت ظلمًا بشباب الضواحي من أبناء المهاجرين الذين هَمّشتهم الثقافة الرسميّة. قيلت كلمة الختام وصار راي نفسه علمًا فرنسياً، ربّما يضاف إلى قاموس "أعلامه" في قادم طبعاته.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس