أحمد بن مصطفى: سؤال النكبة في بواكيره

16 مايو 2021
لاجئة فلسطينية في مخيّم بلاطة قرب نابلس تعرض وثائق ملكية بيت عائلتها الذي احتل عام 1948
+ الخط -

تختص زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا عودة إلى كتاب صدر في تونس بعد بضعة أشهر من "النكبة الفلسطينية" وفيه يجتهد مؤلفه في تفسير أسبابها واستشراف فرص الخروج منها.


كان لهزيمة العرب (النكبة) أمام العصابات الصهيونية الغازية لأرض فلسطين سنة 1948 وتأسيس الدولة الصهيونية بموافقة ومباركة الأمم المتحدة وما ترتّب على ذلك من تشريد وترحيل آلاف الفلسطينيين، الأثر الكبير في نفوس العرب جميعاً ومنهم التونسيون. وقد انبرت الكثير من الأقلام العربية لتحليل مختلف الأسباب التي أدّت إلى تلك "النكبة" ومن ثم قيام الدولة الصهيونية. 

ومن بين أهم ما كتب في هذا المجال مؤلَّف المؤرّخ والمفكر قسطنطين زريق (1909-2000) "معنى النكبة". ولم يتخلّف الكتّاب التونسيون بدورهم عن المساهمة في متابعة الحدث وتحليل خلفيات النكبة بكل أبعادها. ومنها مساهمة الصحافي والكاتب التونسي أحمد بن مصطفى، التي جاءت في كتاب مستقل أصدره باللغة الفرنسية في يونيو/ حزيران 1949 تحت عنوان: Pourquoi les Arabes n'ont pas vaincu Israël  (لماذا لم ينتصر العرب على إسرائيل؟).

يعتبر هذا العمل من أهم المساهمات التونسية والعربية في محاولة فهم أسباب الهزيمة، لما تضمّنه الكتاب، على صغر حجمه، من معطيات وتحليلات دقيقة وعميقة، كما لم يقتصر الكاتب على إبراز العوامل الخارجية (المؤامرات كما بين الكثير من الكتّاب من جيله)، بل غاص عميقاً في تحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والذهنيات السائدة التي اعتبرها الكاتب من الأسباب العميقة لهزيمة العرب وانتصار الحركة الصهيونية كما تميّز الكتاب بتحديد مجموعة من البدائل "العملية" التي قد تساعد العرب على تجاوز نكبتهم.

صدر هذا الكتاب عن منشورات La Jeune Tunisie وتميّز بدقة المعطيات وعمق التحليل. وقد تضمّن مقدمة وثلاثة "فصول" متفاوتة الحجم وهي: "حرب عادلة؟: هل للصهيونيين الحق في دولة بفلسطين، الجرائم، صنيعة الإمبريالية"، و"الانتصار لا يأتي: الأسباب الموضوعية، الأسباب الذاتية"، و"حلّ وحيد: البدائل لتجاوز النكبة".

يرى أنّ اضطهاد اليهود حجة سيئة لتبرير احتلال فلسطين

يبدأ بن مصطفى في مقدمة عمله بطرح استنتاجات مركّزة، مستشرفاً مستقبل المنطقة على خلفية تأسيس الدولة الصهيونية، ومؤكّداً أنّ حرب فلسطين قد وضعت مستقبل "الشرق الأوسط" كله في الميزان ومبيّناً أنّ الصهاينة كما الإمبرياليتين؛ السوفييتية والأميركية، سيمهّدون لعصر الهيمنة على الدول العربية، ويشير إلى أنّ المرحلة الأولى من هذه الهيمنة كانت دامية، أما المرحلة الثانية فستكتسي طابعاً سلمياً يتمثل في التسرّب الاقتصادي والأيديولوجي في المنطقة، إلى أن يصل التسرّب ذاك إلى حدّه الأقصى، لتعرف المنطقة بعد ذلك مرحلة العدوان الصهيوني المسلح مجدّداً، عندها سيجد العرب أنفسهم في وضعية دنيا تدفعهم ربما للتخلّي عن الصراع إذا لم يسرعوا في إصلاح أخطائهم وتجاوز ضعفهم واستخلاص الدروس من "أخطائهم الإجرامية".

لم تكن تلك الأفكار "نبوّة" بل نظرة استشرافية لمستقبل المنطقة استناداً إلى معرفة دقيقة بالحركة الصهيونية وبطبيعتها العدوانية وعلاقاتها الدولية، الأمر الذي أكّدته الأحداث اللاحقة، إذ لم تعرف منطقة "الشرق الأوسط" منذ تأسيس "إسرائيل" الأمن والسلام فتتالت الحروب والأعمال العدوانية الإسرائيلية، سواء على البلدان العربية المحيطة بفلسطين أو على الشعب الفلسطيني ذاته (العدوان الثلاثي 1956، حرب 1967، حرب الاستنزاف 1970، حرب أكتوبر 1973، غزو جنوب لبنان 1978، احتلال بيروت والجنوب اللبناني 1982، وصولاً إلى العدوان على لبنان في صيف 2006 ومحرقة غزة المتواصلة...).

في الفصل الأول، يناقش الكاتب ويحلّل إشكالية تاريخية وسياسية رئيسية وهي: هل للصهاينة الحق في إقامة دولة في فلسطين؟ ولمعالجة ذلك لا يهتم الكاتب بالتاريخ القديم، إذ يقول إن لا فائدة من الرجوع إلى المعطيات الإثنية أو الدينية بل يكتفي بتناول المسألة من خلال فرضيّتين مختلفتين تمثلان في الوقت ذاته فائدة مزدوجة: نظرية وتطبيقية تسمحان، بحسب رأيه، بالوصول إلى أجوبة متماثلة ومتّسقة ولا يبقى في هذه الحالة غير البحث عن أي من الفرضيتين تنطبق على الحالة الفلسطينية.

يتساءل: هل يعجز العرب عن تحطيم الحدود الاستعمارية

تتمثل الفرضية الأولى في ما يلي: هل يمكن لشعب أقام في دولة، بفضل المعونات والتشجيعات المختلفة المقدمة له من قبل الإمبريالية ومن خلال إرهاق شعب آخر واضطهاده، أن يدعي السيادة على تلك الأرض أو الادعاء بشرعية سيطرته على أملاك السكان التي تم الاستحواذ عليها من خلال وسائل وقوانين مفروضة بالرغم من إرادة أغلبية السكان؟
أما الفرضية الثانية التي طرحها الكاتب فهي: هل لأقلية "وطنية" أو إثنية أو دينية أو غيرها، أقامت في بلد ولم تتعرّض خلال وجودها لأيّ نوع من الاضطهاد أو الضغوط ولم تتخذ ضدّها أي إجراءات أو أحكام اعتباطية، الحق (إن سمحت لها الجغرافيا) بالانفصال عن أكثرية السكان وتكوين دولة مستقلة؟

وانطلاقاً من الفرضيتين السابقتين، ينطلق الكاتب في بحث الأسس التي تكوّن الأمم ويقدّم العديد من الأمثلة من التاريخ الحديث والمعاصر نافياً على اليهود أن يكونوا أمة بحسب المفهوم الدقيق لـ أمة، ويؤكد أنّ هؤلاء ينتمون إلى كلّ القوميات وأنّ لكلّ جماعة منهم خصائص سوسيولوجية ودينية وسياسية تختلف عن الأخرى تبعاً للبلد الذي يستقرّون فيه وهو وطنهم. ثم يتساءل الكاتب عن هدف الصهيونية: هل هو تأسيس دولة عرقية؟ مؤكداً أنّ الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود لا يمكن أن يمثل إلا حُجة سيئة لتبرير إقامة دولة يهودية في فلسطين، إذ إنّ هذه الأخيرة لن تتمكن من وضع حدّ لما يتعرّض له اليهود في العالم.

ويقول الكاتب إنّ من المنطقي أن تقوم كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي بتعويض اليهود عما حدث لهم من قبل ألمانيا وغيرها من الدول ومنع تجدّد اضطهادهم، وذلك من خلال إعطائهم حقوق المواطنة كاملة بل حتى منحهم "ملجأ" على أراضيهما، خصوصاً أنّ مساحة الدولتين تغطي أكثر من ثلث أراضي الكرة الأرضية، غير أنّ الكاتب يستدرك القول بالتأكيد أنّ مصلحة الدولتين تدفع إلى تشجيع قيام الدولة الصهيونية في فلسطين. 

يدعو لخوض نضال عقلاني ضدّ الاضطهاد والاستغلال بكلّ أشكاله

كما يبرز بن مصطفى أهم الجرائم التي ارتكبتها المنظمات الإرهابية الصهيونية وأدّت إلى إبادة سكان العديد من القرى والأحياء العربية في حيفا وعكّا. وقد أكد المؤرّخون الإسرائيليون الجدد منذ التسعينيات من القرن الماضي، واستناداً إلى وثائق الدولة الصهيونية، حقيقة تلك الجرائم وبشاعتها من خلال قراءة نقدية للحرب كانت مغايرة تماماً للقراءة الرسمية التي سادت لعقود عدة.

غير أنّ الكاتب يؤكد أنّ ذكر تلك الجرائم لا يعني تحريض العرب للثّأر من اليهود، الذين عانوا الكثير من الاضطهاد، ولا يمكن للعرب بالتالي أن يماثلوا هؤلاء الصهاينة الذين يدعون بأنهم زعماء اليهود في كل مكان وهم في الواقع أعداؤهم الحقيقيون. ويُبرز الكاتب من جهة أخرى دور بريطانيا، من خلال تقديم وقائع ومعطيات دقيقة، في إقامة الدولة الصهيونية (رأس حربة الإمبرياليتين كما يقول الكاتب) وفي الوقت نفسه "تقسيم العالم العربي إلى دويلات عربية".

يخصّص بن مصطفى الفصل الثاني لتحليل أسباب عدم انتصار العرب ويقول إنّ الهزيمة لا تعكس، من قريب أو من بعيد، تحضيرات العرب للحرب ولا تعبّر عن حقيقة موازين القوى بين الطرفين، مؤكداً أنّ هزيمة العرب تعود لأسباب عميقة جداً، وأنّ معرفة مجمل الأسباب وتحليلها يمكن أن يسمحا للعرب بإعادة الثقة بقدراتهم. ويقسّم الكاتب أسباب الهزيمة إلى أسباب موضوعية وأخرى ذاتية.

كتاب أحمد بن مصطفى

أما الأسباب الموضوعية فتتمثّل في وجود دولة صهيونية قبل الاعتراف بها رسمياً بوقت طويل، إذ إنّها كانت موجودة، حسب الكاتب، في كلّ وقت منتشرة ومتنقلة في كلّ مكان، ويقول إنّ هذه الدولة كانت تملك منذ البداية "برنامجاً ولها حكومة تتمثل في الوكالة اليهودية" وتمكنت هذه الحكومة "بمساعدة بريطانيا بالانتقال إلى فلسطين وإرساء تنظيمات متكاملة تميزت بالنجاعة وبالعقلانية وبالانضباط في الممارسة...".

ويتحدّث الكاتب بإطناب وإعجاب عن النشاط التعاونيّ الذي أقامته الحركة الصهيونية في فلسطين وعن المؤسّسات التربوية التقنية والجامعة والمكتبة وتشجيع البحوث المدنية والعسكرية، ويقول إنّها كانت "تبني إلى جانب مخازن القمح مخازن جماعية للسلاح والذخيرة... لذلك، فإنّه عندما أعطيت إشارة العدوان يوم 15 مايو/ أيار كانت التعبئة عامة في صفوفهم. وباشرت كلّ مستوطنة زراعية وكلّ قرية صهيونية باحتلال القرية العربية القريبة منها" فقد كان "الهجوم متزامناً والاحتلال سريعاً. لقد تمكنت الحركة الصهيونية من تعبئة شعب متضامن متحمّس يعمل ليل نهار للمعركة الفاصلة..." كما يعتبر أنّ من أهم أسباب هزيمة العرب جاهزيّة الحركة الصّهيونيّة التي "اعتمدت برنامجاً محدّداً واستخدمت جميع الوسائل بهدف تحقيقه وذلك من دون الاهتمام بردود فعل الآخرين...".

غير أنّ الكاتب يستدرك بالتأكيد أنّه لولا المساعدات التي تدفقت على الصهاينة في فلسطين من جميع أنحاء العالم لما تمكّنوا من إنجاز كلّ ذلك بالإضافة إلى المواقف السياسية المساندة من قبل الدول الغربية وعصبة الأمم وصولاً إلى هيئة الأمم المتحدة قائلاً إنه "باسم العدالة الدولية دفع العرب الثمن". ويتساءل بن مصطفى عن السبب في عدم ممارسة هذه العدالة الأممية على بقية الشعوب المضطهدة.

ثم يستعرض المساعدات العسكرية التي قدّمتها الولايات المتحدة الأميركية مباشرة بعد الاعتراف بإسرائيل كالدبابات والطائرات والمدافع والذخيرة والقروض الميسرة والهبات ومراكز التدريب. ثم يتحدث عن المساعدة التي قدمتها الدول الشيوعية (دول المعجزات كما سماها) والتي لا تقل قيمة وحجماً عن تلك المساعدات التي قدمتها واشنطن... كما بيّن الكاتب دور الإعلام والمال في انتصار الحركة الصهيونية.

ينتقل بن مصطفى بعد ذلك إلى تحديد الأسباب الذاتية للهزيمة، محمّلاً الأنظمة العربية السائدة آنذاك مسؤولية ما جرى، وقائلاً إنّه إلى جانب التحالف الدولي ضد العرب وفلسطين والمساند لإسرائيل "تقبع أنظمة اجتماعية في العالم العربي متأخرة، استبدادية تمارس سياسة خارجية مترددة بقيادة أفراد تنقصهم الكفاءة، يعملون بوعي أو بغير وعي منهم لصالح القوى الأجنبية".

ويحمّل الكاتب مسؤولية تلك الوضعية لأفراد الطبقة الحاكمة العربية الذين "شيدوا آلاف القصور والأماكن الخاصة بهم في حين أنّ مواطنيهم بحاجة للمدارس والمستشفيات وقاعات السينما والمسارح...". وكان هدفهم الوحيد هو "تنمية ثرواتهم فبدّدوا بذلك الثروات ورؤوس الأموال التي كانت من المفترض أن تستخدم بشكل أفضل للنهوض ببلدانهم".

ويقدّم الكاتب تحليلاً عميقاً مستنداً إلى معطيات وأرقام عن الأوضاع الاجتماعية للعرب متخذاً من مصر نموذجاً: سيادة الإقطاع وعذابات العملة المزارعين والعمال (كثرة ساعات العمل برواتب منخفضة جداً..) وتدهور الأوضاع الصحية (توفي مثلاً بسبب الملاريا سنة 1943 نحو 200 ألف مصري) وارتفاع نسبة الأمية وانخفاض نسبة التّمدرس، وارتفاع نسبة وفيات الأطفال (من 650 ألف مولود يموت 450 ألفاً قبل الوصول إلى سنّ الخامسة...).

أما السبب الذاتي الثاني للهزيمة الذي يعرضه الكاتب فيتمثّل في انعدام الحدّ الأدنى من التضامن بين الأنظمة العربية وإن "وُجد (التضامن) فلا يتجسّد إلّا في الخطب والأحاسيس...".

ويؤكد الكاتب أنّ انتصار أيّ طرف في الحرب يتطلّب توفّر شرطين أساسيين يتمثلان في القوة المادية والقوة المعنوية، ويقول إنّ الشرط الأول كان مفقوداً لدى من هبّوا لتحرير فلسطين، إذ إن الحكام العرب لا يفكرون إلا في تنمية مواردهم المالية والبحث عن رفاهيتهم في الوقت الذي كانت تنتشر فيه البطالة والأمراض والأمية والجهل وسوء التغذية وتفتقد شعوبهم للمدارس والمستشفيات وقاعات السينما والمسارح.

وينتقد الكاتب الخطاب السياسي العربي الذي بشّر بالنصر (يُقدم كأمثلة كتابات عوني عبد الهادي، وجريدة الأهرام المصرية) قائلاً إنّ الكلمات تصبح بلا معنى أو بلا قوة عندما تتكلم المدافع. مقابل ذلك يثمّن بن مصطفى ما قامت به الشعوب العربية تجاه فلسطين، غير أن وضعية المتطوعين البائسة وقلة التنظيم والسلاح جعلتا دور هؤلاء محدوداً جداً، في الوقت الذي كان فيه الصهاينة منظمين وكانوا يستعدّون للحرب منذ عشرات السنين.

ومن العوامل الذاتية التي أدت إلى نكبة العرب، حسب الكاتب هي "السياسة الذليلة" التي مارسها الحكام العرب الذين يتهمهم بالتذلل للأجنبي والخضوع لإرادته ويقول إنّنا "كعرب لن نغفر لهذه الحكومات العربية التي لم تمارس سياسة تخدم مصالح الشعوب العربية بل عملت بكلّ الوسائل لخدمة مصالح الإمبريالية...". ويعتبر الكاتب أنّ خطأ الجامعة العربية يتمثّل في "قبولها مهمة تتجاوز طاقتها، في الوقت الذي انحصر نشاطها في إلقاء عزام باشا الخطب... وكان هدفها الأساسي هو توحيد الذين يكرّسون التجزئة العربية وحمايتهم من شعوبهم...".

ويقول إنّ الجيوش العربية في ساحة المعركة كانت تفتقر للسلاح والتنظيم والمؤونة وينتقد قبول العرب الهدنة التي اعتبرها الكاتب خدعة مكّنت الصهاينة من مزيد من التسلح وإعادة الانتشار للانقضاض على الجيوش العربية... ويتهم القيادة العربية بالخيانة لأنّها سهلت الأمر على الصهاينة لاحتلال فلسطين...

يخصّص بن مصطفى الفصل الأخير من كتابه لتقديم البدائل التي تمكّن العرب من الانتصار على أعدائهم، ويقرّ الكاتب بأنّه رغم انتهاء الحرب وسكوت المدافع والتوقيع على اتفاقيات لوزان بين إسرائيل والدول العربية الأربع، غير أنّ الصراع سيستمر لفترات طويلة، وذلك على جبهتين الأولى عسكرية والثانية اقتصادية، مشيراً إلى أنّ رقعة فلسطين محدودة في حين أنّ الهجرة اليهودية ستتضاعف، لذلك، فلا بدّ للدولة الجديدة من التوسع على حساب فلسطين وبعض الدول العربية.

ويشير إلى أنّ حرب فلسطين لم تكن لتحدث "لولا امتلاك الولايات المتحدة الأميركية لجزء مهم من النفط العربي وحرصها على استمرار تدفّقه، ولولا حرص إنكلترا على حماية حقول النفط في العراق وأنابيب نقله وقاعدتها الجوية في النجف الضرورية لحماية قناة السويس، ولولا حرص الاتحاد السوفييتي على نيل حصته من الغنيمة". ويقول الكاتب إنّ "فهم الصراع بين الطرفين على أساس ديني هو من باب العار". إنّه من العار على العرب محاربة اليهود كيهود، يجب خوض نضال عقلاني ضدّ الاضطهاد والاستغلال بكلّ أشكاله ومن أيّ مأتى كان "وبالتالي من الضروري النضال العقلاني ضد الاضطهاد والاستغلال بكلّ أشكاله ومن أيّ جهة يأتي وذلك بهدف حصول الوطن العربي على الاستقلال والسعادة التي يستحقها...".

أما الشروط الضرورية للوصول إلى هذا الهدف فيلخصها الكاتب في عدة نقاط منها، أولاها ضرورة أن تتوحد جميع الأحزاب والمنظمات في كلّ بلد عربي (باستثناء تلك التي تخدم مصالح الإمبريالية أو المصالح الشخصية لفرد أو مجموعة من الأفراد) وأن تحدد نفس المهام التي تتمثل في سعادة الشعب المادية والمعنوية وأن تستخدم نفس وسائل العمل وأن تتوحّد في تنظيم واحد وأن تتبنّى المبادئ الديمقراطية في العمل...

ثانياً، لا بد من تحديد برنامج عمل من أجل الاستقلال الحقيقي وتطوير المستوى المادي والمعنوي للشعب وإلغاء كلّ أشكال الاستغلال والاضطهاد ونتائجها، ومن ثمّ تعبئة كلّ الطاقات الشعبية وإيقاظ حماسها لتحقيق هذا البرنامج.

كما يعتبر أنّ الوحدة الاقتصادية هي الحلّ الوحيد لجميع مشاكل العرب الاقتصادية والاجتماعية، مؤكداً أنّه ليس بإمكان أيّ دولة حالياً العيش على قدراتها الذاتية، ويذكر الكاتب مساعي أوروبا في البحث عن الوحدة الاقتصادية في ما بين دولها.
ويقول إنّ كلّ "مقومات الوحدة العربية متوفّرة ومنها: اللغة والآمال المشتركة والعادات والتاريخ. أما شكل الوحدة التي يطالب بها فهو اتحاد فيدرالي يأخذ مكان الجامعة العربية الحالية. ويتساءل المؤلف في الأخير: هل يعجز العرب عن تحطيم الحدود التي وضعها الاستعمار الأجنبي؟

لا تبرز قيمة هذا الكتاب في الواقع من خلال تشريح المؤلّف للأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى "نكبة" العرب وتحديده للأطراف المسؤولة عن ذلك فحسب، بل في ما طرحه أيضاً من أفكار وبدائل لتجاوز النكبة وبنقده الموضوعي والجريء وابتعاده عن تقديم الأعذار والتبريرات. وهو ما يجسّد نباهة الكاتب ويبرز في الوقت نفسه فرادة الرؤية العقلانية للخطاب السياسي في تونس في تناوله للموضوع الفلسطيني.


* بقي كتاب "لماذا لم ينتصر العرب على إسرائيل؟" لأحمد بن مصطفى طيّ النسيان لعقود، ويشتغل اليوم أستاذ التاريخ السياسي المعاصر في جامعة منوبة/ تونس، عبد اللطيف الحناشي، على ترجمته، وهو مشروع غير بعيد عن عمل سابق له بعنوان "تطوّر الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية 1920 - 1955" (صدر عن "المطبعة الرسمية في تونس 2006، ثم عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في 2016).

كتاب الحناشي

من مؤلفات الحناشي الأخرى: "السلفية الجهادية في تونس: من شبكات الدعوة الى تفجير العقول" (2020)، و"السياسة العقابية الاستعمارية الفرنسية بالبلاد التونسية 1881-1955" (2020)، و"تونس: من الثورة التائهة إلى الانتقال الديمقراطي العسير" (2019)، و"الدين والسياسة في تونس والفضاء المغاربي بين الإرث التاريخي وإكراهات الواقع" (2018)، و"النهضة وتفاعلاتها في العالم العربي واليابان منذ القرن التاسع عشر" (2001، بالاشتراك مع علي المحجوبي ومسعود ضاهر).