هل يُمكن للأدب أن يوظَّف في ألاعيب السّياسة فيكونَ أداة طيّعةً بِأيْدي رِجالها؟ وهل يمكن للسّياسَة أن تتخلّى عن طبيعتها التّسلّطيّة لِتذوب في حساسيّة الأدب وجماليّاته؟ وهل ثمّة من منطقةٍ وسطى قد يَتقاطع فيها هذان المجالان دون مُنافسة ولا توظيفٍ؟ هذه هي الأسئلة التي تَنثال على الباحث بمجرّد التفكير في النّصوص التي أنتجها بعض السّاسة العرب ضمن ظاهرةٍ هامشيّة في تاريخ الأدب وحيويّته، لكنّها تستحقّ التحليل لمعرفة بِضعِ وظائف ثانويّة، لم يُشِر إليها منظّرو الإنشائيّة الحديثة، مثل رومان جاكبسون (1896 ــ 1982) وجان كوهن (1919 ــ 1994) وحتى جون بول سارتر (1905 ــ 1980).
تتمثّل هذه الظاهرة تحديدًا في إنتاج السّاسة، وخصوصًا الذي يحتلّون مراكز القيادة، لنُصوص أدبيّة، تُنشر بأسمائهم الحقيقيّة وقتَ ممارستهم للسّلطة أو بأسماء مستعارَة. وقد عرف التاريخ العربيّ الحديث العديد من هذه الأعمال مثل رواياتٍ أربعٍ تُنسب إلى الرّئيس العراقيّ الأسبق صدّام حسين، ومثل كتاب "القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رجل الفضاء"، المنسوب إلى معمّر القذّافي، فضلًا عن مجموعة أقاصيص كتبها أنور السادات وأُخرى حبّرها جمال عبد الناصر في شبابه، والقائمة طويلة، أردنا من إيراد بعض عناوينها التدليل فحسب، لا الاستقصاء الكلّي.
وقد يكون في تراثنا الثقافيّ العديد من السوابق، حيث اشتهر بعض الأمراء بتملّكهم لناصية الأدب، حتى سُمّي لسان الدين بن الخطيب (1313 ــ 1374) بـ"ذي الوزارتَيْن"، لأنّه كان ممّن أتقَنوا دواليبَ الحُكم مع تمكّنٍ من فنون القول وذهابٍ في أغراضه؛ وابن المعتزّ (861 ــ 908)، صاحب كتاب "البديع"، الذي جمع أيضًا بين مقاليد الإمارة وفنون الشّعر. فالظّاهرة، إذاً، مُتواترة في التاريخَيْن القديم والمعاصر.
كتابات، أغلبها رديء، توهم بأنّ السّاسة متعدّدو المواهب
واللافت أنّ بعض هذه النصوص كُتبت في فترات انشغال هؤلاء القادة بالعمل السّياسيّ وانغماسهم في دواليبه السّاحقة، مثل ما هو شأن جمال عبد الناصر وأنور السادات، كما يؤكده محمّد حسنين هيكل (1923 ــ 2016). ولعلّ صدّام حسين أبرز هذه الأمثلة، فقد كَتب نصوصَه، والعُهدةُ على مُؤرّخي سيرَته، آخرَ حياته وهو منعزل في قصوره، قُبيل الغزو الأميركي بأشهر قليلة، حيث كان، في سنواته الأخيرة، متفرّغا للكتابة، بعيدًا عن حياة الناس وما يعانونه أثناء الحصار الأميركي، وهو ما يوحي بشيءٍ من النرجسيّة طالَما ميّزت هؤلاء الكتّاب، وما كتابة نُصوصٍ خياليّة عن أبطال إلّا ترجمةٌ لحبّ الذات وتَضخيمها، في أحد المعاني.
والأغرب من ذلك أن يُنتجَ هؤلاء القادة قصائدَ شعريّة، مثل: "أبحث عنها" للقذافي التي لحّنها المُطرب اللبنانيّ ملحم بركات، و"سمراء"، وهي من تأليفه أيضًا ومن تلحين المطرب الليبي حميد الشاعر وأدائه. وهذا أغرب لأنّ صياغة الشِّعر والتصرّف في مضامينه ولَمَحاته يقتضي حساسيّة دقيقة لا تلائمها ضغوط السّياسة ولا الانغماس في آلياته الاستبداديّة.
من جهة المضمون، نحدس ــ وهذا ما يُفهم من القراءة السّريعة للنصوص المنسوبة إلى صدّام حسين مثلًا ــ أنها ترمز إلى الوَطن والأمّة، فتصير بهذا المعنى استمرارًا لدَور "القائد المُلهَم" في تغذية الرّوح الوطنيّة وشَحذ العزائم، التفافًا حول الرموز الجامعة، أي: حولَه. وهنا قد يتماهى النصّ المَكتوب مع الخطاب الشّفوي الذي يُلهب المشاعر من خلال الخَطابَة، كممارسة قَوَويّة، والتي حللّ الألسني الفرنسي باتريك شارودو آلياتها في أعماله العديدة.
لطالما رافقت هذه النصوص شكوكٌ حول هوية مؤلّفيها
وقد ينتمي مضمون هذا الأدب إلى جنس السّيرة الذّاتيّة ورواية الأحداث الشّخصيّة التي مرّ بها هؤلاء السّاسة خلال فترات حُكمهم، وهذا مثلًا ما قام به جاك شيراك وفرنسوا هولاند ونيكولا ساركوزي في الفضاء الفرنسيّ، إلا أنّ هذا البعد مُحتشمٌ لدى القادة العرب، باستثناء بعض الكتابات الحاملة لأسماء مستعارة. ومن ذلك، اعتبر النقّاد ــ وهم أيضًا ممّن يحشدون لمديح نصوص القادة والترويج لها ــ أن روايات صدّام تُشير إلى أجواء العراق وما كابَده أثناء غزو الكويت سنة 1991 وانطلاق "عاصفة الصحراء" الذي قادها التحالف العسكريّ.
وتوهم هذه النّصوص، رغم رداءة أغلبها، أنّ هؤلاء السّاسة متعدّدو المواهب، يَجمعون في ذواتهم بين الاقتدار على التدبير السّياسي للشّعوب، وبين إنتاج الأدب، وحتى التحليل الفلسفي، من دون تكوين مُسبق. فهي تُظهر "عبقريّة" القيادة المزعومة، السياسيّة والأدبيّة، من أجل مزيد من بسط سيطرتها وإحكام قبضتها على الشّعوب المَسحوقة أصلًا.
وقد يُنظر إلى هذه "المَلَكة" على أنّها علامة على الرّقي الذهنيّ، حيث يتأثّر هؤلاء السّاسة، ضمن منطق تقليد الغَرب والتماهي مع وجوهه الشهيرة، ببعض القادة الغربيين مثل وينستون تشرشل (1874 ــ 1965) الذي حاز جائزة "نوبل" للآداب سنة 1953 ومثل الرّئيس الأميركي جيمي كارتر (1924 ــ 2002) في كتابه "لديّ حلم"، وحتى الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا في "جرأة الأمل"، وغيرهم كثير.
نصوص تشكّل استمراراً لدور "القائد الملهم" لشعبه وقرّائه
ولذلك، كان من الخصائص الملازمة لهذه النّصوص وجود شكوك جدّية حول نسبتها إلى أولئك القادة، فقد شكّك جلّ النقاد في إمكانية صدور مثل تلك الأعمال عن مثل أولئك الطغاة الذين اشتهروا بصلابَتهم وجُرأتهم في الفتك بالأعداء. وقد طاولت هذه الشكوك أكثرَ ما طاولت صدّام حسين، بل وقد حُدّدت هويّة الكاتب الخفيّ لرواية "زبيبة والملك" عقب صدورها، وهو سامي محمد، الذي تُوفيّ في ظروف غامضة، ممّا يرجّح إمكانيّة اغتياله. ويتأكّد هذا الملمح باستعانة الزعماء بغيرهم لإنجاز نصوصهم، فهي ليست من بنات أفكارهم بالكليّة، وجلّها مَأخوذٌ مصطنع.
نظريًّا، لا شيءَ يمنع هؤلاء السّاسة من ممارسة هوايتِهم الأدبيّة في أوقات الفراغ، وليس في القوانين أو الأعراف المحليّة والدّوليّة ما يَحرِم الرّؤساء من حقّهم في التعبير، بما في ذلك التصوير الفنّي لخلجات الضمير. لكنْ، مفهوميًّا، لا يمكن لنصوص الأدب أن تذوب في أقاويل السّياسة، ولا لهذه الأخيرة أن تتستّر بِحُلى العبارة الإبداعيّة. فبمجرد أن يتّكئ أحدهما على الآخر ينقلبان معًا إلى لعبة بيد السلطة للتأثير في وَعي الشعب. كما يتناقض جوهر الأدب مع طبيعة العمل السّياسيّ، إذ إنّ وظيفَتَه الرّئيسة أن يعرّيَ دواليب السّلطة وأن يَفضح، عبر الصورة والعبارة، الفخاخ التي تنصبها لإدامة التحكّم في مصائر المحكومين.
أدب الزّعماء إذاً ظاهرة اجتماعيّة - سياسيّة قبل أن تكون فنّية، يتشابك فيها السياسيّ، وهو الذي يقود اللعبة ويتحكّم في خيوطها الخفيّة، مع موارد اللغة الإنشائيّة، من أجل تحقيق وظائف تتجاوز هذه الأخيرة وتعمل على فرض صورة للزعيم تُكمّل ملامحَ القوّة والنّفوذ لديه، وتجعل له وجهًا إنسانيًّا مشرقًا، يظهر من خلاله في صورة المبدع العارف بمسالك الجمال والمالك لحساسية فنيّة تغذّي طريقة قيادته وتوجّه خياراته السّياسيّة.
ما يعني أنّ الوظيفة نفعيّة محضة، لا تكون فيها المضامين "الوطنيّة" سوى غلاف شفّاف، بالكاد يُغطّي هذا التوظيف الرّخيص لخطابٍ وظيفتُهُ وجوهرُهُ أن يكون خارج السلطة، ناقدًا لها، معرّيًا لاستخدامها الفنَّ ذريعةً لاستغفال فئات الشعب المُجهَّلَة.
* كاتب وأكاديمي تونسي مُقيم في باريس