في القرن الأول قبل الميلاد، وصل مئات من البربر، الذين عُرفوا فيما بعد باسم الأمازيغ، من شمال أفريقيا واستقرّوا على سواحل جزر الكناري الموجودة في المحيط الأطلسي. لم يفعلوا ذلك بمفردهم، بل جلبوا معهم أمتعتهم الثقافية الخاصة بهم، كالسيراميك والأبجدية، إضافة إلى بعض الحيوانات الأليفة كالماعز والأغنام والكلاب، وبعض البذور كالشعير والقمح والعدس والبازلاء، وأشجار التين.
سرعان ما انتشرت ثقافتهم في جميع أنحاء الجزيرة، وتطورّت لمدة 1400 عام، أي حتّى عام 1487، وهو التاريخ الذي بسط فيه الملوك الكاثوليك سيطرتهم على الجزر ودمجوها كأقليمٍ مستقل إلى التاج القشتالي.
"تاريخ جزيرة: أركيولوجيا الكناري" هو عنوان المعرض الذي يستضيفه "المتحف الأركيولوجي الوطني" في جزر الكناري حتى الثالث من أيلول/ سبتمبر المقبل، ويسرد، عبر عرض مجموعة من القطع والتحف والتماثيل والأدوات الأصلية والنصوص، قصّة أثرية "أصيلة ومثيرة عن وصول شعوب شمال أفريقيا إلى الجزر والآثار التي تركوها فيها"، كما تشرح كارمن كروز دي ميركادال، ومنسقة المعرض.
تُجهل الأسباب التي دفعت هذه المجموعات البشرية من شمال أفريقيا إلى الهجرة إلى أرخبيل الجزر، وقد يكون الضغط الروماني أحدها، كما أنه يجُهل حتّى الآن ما إذا كانت تلك المجموعات الأمازيغية قد وصلت بوسائلها الخاصّة أو ما إذا جرى نقلها عن طريق الملاحين.
وسرعان ما سكنت تلك المجموعات الأمازيغية الأولى الوديان والجبال البعيدة عند الساحل. "لقد عاشوا في كهوف عُثر بالمقرب منها على المقابر وكذلك في التجاويف. كان نشاطهم الرئيسي الرعي. ولكن بين القرنين السابع والثامن، وصل مستوطنون جدد من القارة وشجعوا الزراعة. بعد ثلاثة قرون - الأسباب غير معروفة - حدث تغيير جذري في موقع المستوطنات: فقد بدأوا في الارتفاع على السواحل بمنازل حجرية على شكل صليب وهجروا الكهوف"، توضّح منسّقة المعرض.
في القرن الحادي عشر، مارس الأمازيغ الصيد كنشاط رئيسي، مما أدى إلى نمو سكاني كبير. في الواقع، بعض الجماجم المعروضة في المتحف تعاني من شذوذ في العظام يسمى انفتال الأذن، وهو ناتج عن التلامس المطوّل مع الماء البارد.
أمّا بالنسبة للأدوات التي استخدموها، فتوضّح منسقة المعرض أن "عدم وجود المعادن في الجزيرة أجبرهم على استغلال الزجاج البركاني (السبج) لصناعة الأدوات الحادة، كذلك البازلت والفونوليت (الحجارة البركانية) لصناعة وسائل الصيد. وقد جرى الحصول على تلك الحجارة من المناجم المكشوفة ومناجم الأنفاق الأفقية، الأمر الذي تطلب عملاً تعاونياً ومعرفة تقنية محددة للغاية، وهذا ما يثبت أنهم كانوا يعيشون في جماعات".
وتضيف كارمن: "كذلك صنع الأمازيغ الأوائل على الجزيرة أيضاً تماثيل من الطين لبيوتهم الخاصة، حيث يمكن العثور فيها مجموعة متنوعة كبيرة من التماثيل والأشكال والزخارف والأجزاء التشريحية أو تمثيلات الرأس والشعر، وجميعها تتمحور حول مفهوم الخصوبة".
في القرن الرابع عشر، وصل الأوروبيون الأوائل إلى الأرخبيل بحثاً عن طرق تجارية جديدة ومصادر للثروة. كانت فترة من البعثات التبشيرية وغارات النهب، تلتها فترة غزو في القرن الخامس عشر بلغت ذروتها في دمج جميع الجزر في تاج قشتالة. كان للغزو والاستعمار تأثير وحشي على المستوطنين الأوائل الذين أهلكتهم الحرب والمجاعة ومسببات الأمراض الجديدة. انهار النظام الاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي، لكن البصمة الأصلية للأمازيع بقيت موجودة في أركيولوجيا الجزيرة، وهذا المعرض ليس إلا تأكيداً لذلك.