أسئلة مفجعة وأجوبة أفجع

24 أكتوبر 2024
شاب فلسطيني يتأمل الدمار الذي سببه قصف الاحتلال على خانيونس، 16 نيسان/ إبريل، 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتحدث الممرضة ياسمين الشاعر عن تجربتها في التحمّل والصمود أمام المآسي، معبرة عن دهشتها من قدرتها على مواجهة الصدمات القاسية، مما يعكس قوة الإنسان رغم هشاشته الظاهرة.
- يسلط النص الضوء على معاناة شعوب غزة وجنوب لبنان تحت وطأة الحروب، حيث يواجهون الموت والدمار والفقر يوميًا، مع التأكيد على أن التحمّل أصبح ضرورة للبقاء.
- يختتم النص بالتأكيد على أن التحمّل ليس فقط جسديًا، بل نفسي وأخلاقي، مشددًا على النضال من أجل البقاء كغريزة متأصلة في الشعب الفلسطيني واللبناني.

اعترتني رجفة وأنا أقرأُ ما كتبته ابنة أخي الممرّضة ياسمين الشاعر؛ وهي المندوبة الأصغر مع "الصليب الأحمر"، عن التحمّل: "أخافُ من نفسي حين أظلّ صامدةً أمام الأشياء القاسية، أخاف حين لا أبكي أمام الأشياء التي تستدعيني للبكاء، وأخاف حين أصمتُ رغماً عن ضجيج رأسي وكلّ الكلمات التي في صدري، أخافُ على نفسي حين تستقبل كلّ الصدمات بهدوء تامّ، أخاف من فكرة أنَّ هذا الثبات سينهار فجأة ولن أستطيع النهوض مرة أُخرى... أنا التي اعتقدتُ أنَّ خطواتي لا تكفي لهذا الطريق المُتعب، يُدهشني تحمُّلي!".

تنهيدة طويلة، وتأمّلٌ طويل رحتُ خلالهما أفكّر في قدرتنا نحن البشر على تحمّل المآسي التي قد نمرّ بها. وما من بشرٍ اليوم يمرّون بمآسٍ مثلما هُم أهل غزّة وجنوب لبنان. ومَن يعلم إلى متى ستمتدّ المأساة وكم ستتغلغل. والمأساة هنا موتُ أحبّة أمام أحبّتهم، وهدمُ بيوت بالجملة على رؤوس ساكنيها، ومناظر أطفال بدمٍ على أجسادهم، وصراخُ أهلٍ عليهم، ومستشفيات تفيضُ بالجرحى والقتلى، وجوع وعوز وفقر يعلو وجوه الناس التي شابت طلّتها وخفّ بريقها أمام الأهوال الجهنمية من "إسرائيل" ومجتمعها الغارق بالفاشية وأميركا الظلاميّة، أخلاقاً ودناءةً.

جاء في الأثر القرآني أنه "لا يكلّفُ الله نفساً إلّا وسعها..."، وربّما لا تعرفُ النفس وسعها إلّا حينما تتعرّض لهذه السعة ومعالمها وتأثيراتها. هل خُلقَ شعبٌ أو أمّةٌ للموت على التلفاز ليل نهارٍ بآلات قتلٍ تدميرية ووحشيّة مغيبٌ عنها أيِّ ضمير أو ضوابط؟ هل هناكَ أيِّ سعة بشرية في الكون تستطيع أن تتحمّلَ خراباً وفقداناً وعوزاً وتهجيراً متكرّراً يواجهُ شعباً كاملاً كما هو حال الفلسطينيّين في غزّة وشمال الضفة واللبنانيين في لبنان؟ الأسئلة مُفجعة والأجوبة أفجع.

قيامتنا ضدّها هي غريزة فينا ما بقينا في معركة البقاء والوجود

أقرأُ لأُمٍّ (أسماء رجاء أكرم) ترعى أبناءها في غزّة وقد فقدت زوجها، وكيف علّقَ زوجها رايةً بيضاء بالقربِ من الخيمة لعلَّ الجيش الإسرائيلي يتركه وشأنه، لكنَّ الأخير أطلقَ النار على العائلة، فقتلَ زوجها وابنها وغيرهما، وها هي تطحنُ طواحين الهواء لتعيشَ وتُساعدَ من تبقى من أسرتها. وأسمعُ عن عائلة لبنانيّة من الجنوب تأخّرت في الهرب إلى بيروت حتى سقط الصاروخ الإسرائيلي الأميركي الجهنمي الذي قضى على العائلة كلّها، وأرى نتنياهو يخطبُ في "الأمم المتحدة" عن جبروت "إسرائيل" ولعنة إيران. وأقرأُ لخالد حروب مقالة عن "عمليّة الحرب"، استبدالاً لعمليّة السلام والإمعان في المجزرة على سبيل الضربة القاضية لبسط التوحّش الإسرائيلي على الشرق الأوسط، تجسيداً لطريقة "إسرائيل" المُتمثّلة في نتنياهو: "أنا ربكم الأعلى...".

قُتل راهبٌ في جنوب لبنان مع عائلته، وقُتل طبيبٌ في غزّة مع عائلته، وَقُتلتْ وقُتلَ... ما هذا الموتُ الذي يحصد الأبرياء الأنقياء، ويترك الوحوش تتوحشُ حتى الثمالة على دماءِ وأرواح الآخرين. أي عدلٍ إلهي سينصفُ هؤلاء الأطفال، والأطباء والأئمة والرهبان والنساء والشباب بسبب عفن "إسرائيل" الآتية من قُمقم أوروبا المتوحّش، والمدعومة من رُعاة الشر في العالم، قادة أميركا وحكومتها السافلة؟

وبالطبع لا سبيل للناس إلّا التحمّل، فماذا عساهم يفعلون؟ التحمّلُ المرّ الأليم، مع كلّ الحسرة. لكني أتعجّبُ من فكرة هذا الإنسان الهشّ الذي تفرضُ عليه ظروف قاهرة جدّاً، فتتحوّلُ الحياة من رغبة في السعة والتحسّن إلى كفاحٍ مستميت من أجل بقاء النوع: الإنسان الفلسطيني واللبناني في هذه البقاع المعذبة.

ولا يخلو الأمر من أنّنا نحن مراقبي المشهد قد بلغ بنا "التحمّل" مبلغه، فعقولنا تصارع وأنفسنا تعتصرُ حزناً على أحبتنا الأبرياء وأرضنا وبلادنا، وغصّتنا من أن أرذل البشر يُعطون كلّ وسائل القتلِ من أجل دمارنا واستعباد أهلنا. التحمّلُ هنا ليس فقط من نوعٍ جسدي، بل هو أيضاً وفي الصميم، نفسي وأخلاقي ووجودي، فكيفَ نتحملُ الهلاك المطلق؟ يبدو السؤال بلاغياً، معلقاً لا جواب عنه.

لعلّه صرخة في وجه الكون أننا لم ولن نتحمّلَ هذه المقتلة الرهيبة، وقيامتنا ضدّها هي غريزة فينا ما بقينا في معركة البقاء والوجود هذه الكبرى والأقسى في تاريخ الشعب الفلسطيني ومؤخّراً اللبناني، والمنطقة العربية المغيّبة برمتها. 


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون