لن تصدر قصيدة النثر، في طورها الأوّل عن أيّ سابقة، ولم يكن في اللّغة أيّ استعداد لها. بدت، لأوّل وهلة، لطمةً لها، نوعاً من مفاجآتها لنفسها. المفاجأة جعلتها تنتهي إلى مسارين مزدوجين. الأول ترجيح وإسالة ونسج قرآنيّ لإيقاع أصليّ، يُفترض أنّه بناء لنصّ تأسيسيّ هو فصاحة واحدة، نموذج اللّغة وهيكلها الضمني والداخلي، من ناحية أُخرى كان المسار الثاني ارتطاماً بهذه الفصاحة، وخروجاً عنها، وما يتركه ذلك من عُري إيقاعي، وفقدان شبه تام للغناء.
نحن هكذا أمام مسارين، هما، على اختلافهما، بل وتعاكسهما، ينتهيان إلى محلّ واحد تقريباً. إنّه نوع من "سَريلة" خاصة، فالإلهام السريالي في أساس التجربة كلّها. من هنا فإن النماذج الأولى لقصيدة النثر تبدو، من ناحية ما، نقداً للشعر أو نظرية فيه. نحن هكذا أمام اللغة، التي هي ذخيرتنا القومية. أمام مسارين أولهما الترجيع وإعادة كتابة النص التأسيسي، النص الذي هو اللغة في مثولها وإعادتها إلى ما يفترض أنّه أصلها ونموذجها الأول، فالقصيدة هنا تقول اللّغة، تقول نفسها، تقول الشعر ونقد الشعر.
قصيدة النثر كانت طامحة لأن تقول النص الأول والأصلي
بينما، في المسار الثاني، نقع على إنكار اللّغة، وإنكار فصاحتها الواحدة، وبالتالي الكتابة بلغة هي، من منطقها نفسه، لا لغة. لغة لا تنكر أصلها فحسب بل تنكر أيضاً نفسها. بين المسارين، لأول وهلة تعاكُس، لكنّنا مع ذلك ننتهي إلى ما يبدو نتيجة واحدة تقريباً. إنّنا أمام نصوص كلّ منها يدّعي أنّه اللغة، وأنّه الشعر، وأنّه، في الوقت نفسه نقد الشعر ونظريّته.
نحن أمام الشعر وقد استحال إلى دعوة، وغدا النصّ نفسه، على نحو ما، في تدفّقه وبنائه على نفسه وترجيعه وعريه الإيقاعي، في كلّ ذلك النص، بل والشعر بعده، هما نظريّة في الشعر وفي اللّغة، وتحويل لهما إلى دعوة، والبناء عليهما. قد يبدو الطفح اللّغوي أحد علائم قصيدة النثر في طورها الأول. هذا الطفح اللغوي هو بحد ذاته نقد للشعر ونقد للّغة، بل والبناء عليهما، بناء يحيل الفيضان اللغوي إلى نوع من بيان مستتر. بل ويبدو أن النثر البلاغي، أو العاري من البلاغة، هما معاً يجعلان من التدفّق والسيولة والترجيع نوعاً من رسالة أولية، من ترتيل واسترجاع لمقاصد مضمرة وخفية، وإن تبدّت في المسار الثاني إنكارية ورافضة (هذه الكلمة دارجة لدى شعراء هذا الطور).
هكذا تبدو السيولة والطفح والإسالة، كأنها الترتيل الخفي لبيانات ضمنية، أو هي توجيه الّلغة سلاحاً، واستعمالها كضجيج حربي وكوقع معارك قائمة. هذا من ناحية يمُتّ، ولو من بعيد، إلى المعركة القومية وإلى اللغة بوصفها، من بعيد أيضاً، النشيد القومي الأول والأثر التأسيسي والأصلي. يمكن لنص مستفيض كالنصوص الأولى لقصيدة النثر، أياً كانت مقاصد وسياسة أهلها، أن يحلّ الاسترسال اللغوي، محلّ هذا التمثل والمحاكاة لما يفترض نصاً أوّلياً، شأنه في ذلك شأن كتاب أوّلي يستعاد كلّ مرة يجري فيها العمل على اللّغة، أو استظهارها كمادة أولى لبناء أو استحضار أو إضمار نصّ تأسيسي.
القصيدة التي كانت حرباً على الفصاحة بنَت على خطابتها
لا بدّ أنّ نصوص قصيدة النثر الأولى لم تكن بعيدة عن ذلك. لقد كانت، في مساريها من هنا أو هناك، طامحة لأن تقول العالم، وتقول الدعوة، بل وتقول النص الأوّل والأصلي. لم يكن استرسالها وتوزّعها وتوزّع موضوعاتها وإيعازاتها ومقاصدها، بل وترتيلها الظنّي وترجيعها؛ لم تكن هذه إلّا لغة كاملة ودعوة شاملة، أو هكذا تكون نصّاً تاماً وأوليّاً وأصليّاً. لا بدّ من القول إنّ نسيج هذه النصوص وكتاباتها الفيّاضة وتواتر إشاراتها وإيعازاتها وطفحها النصوصي، جميعها من طموحها الضمني لأن تكون اللغة وتكون النص وتكون البيان.
نحن هكذا أمام قصيدة تحمل، في آن معاً، خطاباً مزدوجاً. إنّها، من ناحية، خروج على النسق، ومن ناحية أخرى استمرار له. إنها، من ناحية، هذا الترتيب الذي يتّخذ من تجويد نثري مثالاً، وينسج هكذا على ما يبدو ذا إلهام مماثل رغم، أنّ هذا الإلهام ملبس إلى حدّ بعيد، فقصيدة النثر هذه، في مسارها الثاني، قد تَحذف عن اللغة كلّ ما هو بلاغتها الخاصة، وقد تخرجها من نموذجها الإيقاعي كلّه، وقد يبدو ترتيلها لذلك معوّقاً ومتعسراً وجافاً إلى حدّ بعيد. لكنْ، ما لا تقوم به البلاغة، وما يخسره النص بالتنصّل منها، يبقى مع ذلك حاضراً في استرسال النص، وفي دعويّته، وفي تداعياته التي تتواتر وتتعالق وتؤلّف، من ذلك، ما يشبه أن يكون إيقاعاً يبني على خطابيّة مضمرة. لعلّنا نفهم من ذلك أنّ قصيدة النثر، في طورها الأول، كانت، في آن معاً، هذا النقد للفصاحة، لكن إلى حدّ البناء على نموذجها الضمني أو خطابها غير المعلن.
هذا ما يبدو، لأول وهلة، مفارقاً وملبساً، فالقصيدة التي كانت، بوضوح، حرباً على الفصاحة وتنصّلاً مثابراً منها، هي، في ذات الوقت، تبني على نموذجها وخطابتها الضمنية. في كلّ الأحوال تبدو هذه، وخاصّة في مسارها الأول، غير قادرة على التنصّل من بلاغية قائمة وخطابة ضمنية. على دعوة تتحول معها قصيدة النثر وخاصة في مسارها الثاني، إلى دعوة وإلى لغة استفزازية جازمة وضارية وعاصفة. أي أنّ لها، على نحو ما، وجهاً خطابياً مستتراً.
يمكننا هكذا أن نتميز أن قصيدة النثر الأولى كانت، من هذه الناحية، تُجاري النص التأسيسي، ولا تتخلى عمّا، في بلاغته، من عنف دعوي، ومن تنديد ونقد وأمر جازم. كلّ ذلك، بنوع من طلاقة واسترسال، تبقى العبارة معهما على ساق العبارة الأخرى، وتبدو هكذا لحناً متواتراً، حتى حين يحلّ الجفاف والأمر والتنديد، وإيقاعاً آخرَ للنثر يستكشف ما في النثر من خطابة قائمة. يمكن أن نفهم هكذا أنّ قصيدة النثر، في طورها الأول، لا تخرج كلّياً عمّا في النصّ التأسيسي، من نموذج يتردّد بين الهداية والوعيد. أي أنها، في الحالين، تتابع خطابة ظاهرة أو ضمنية، لكنّ النص، مع ذلك، يبقى على حاله من التمام ومن الشمول، ومن الخلاصيّة، ومن الدعوة. أي ان النص يبقى، مع ذلك، على الميل نفسه لأن يكون تأسيسياً وكاملاً.
من هنا تبدو قصيدة النثر في طورها الأول، دعوة إلى قصيدة النثر، وكفاحاً في سبيلها. أي تبدو، في الوقت نفسه، كلاماً يمكنه أن يستقيم نظرية في الشعر، أو بعبارة أدقّ نقداً للشعر، مع كل ما يتبع ذلك من الإرث العربي من مزاوجة بين الشعر والدين والدعوة، مزاوجة بين الشعر والهدى والأمر الحقّ.
* شاعر وروائي من لبنان