أغيم فينتسا: فلسطين في ثلاثة مشاهد

30 يوليو 2021
أغيم فينتسا
+ الخط -

أغيم فينتسا (1947) شاعر وناقد وأكاديمي كوسوفي معروف في غرب البلقان وما بعده، بعد أن تُرجمت أشعاره إلى عدّة لغات أوروبية وشرقية. ويمكن القول إنّه يتميّز بالأصالة والمشاكسة، أو عدم المجاملة للسلطة السياسية على نمط كثيرين في كوسوفو والبلقان، بل هو أقرب إلى المثقّف السعيدي (نسبة إلى أدوارد سعيد) الذي يعتدّ بعلمه وثقافته ويحرص على استقلاليته التي يعتبرها متلازمة مع المثقّف الحقيقي. ولذلك ليس من المستغرب أن يستشهد، في مدخل كتابه الأخير "فلسطين في ثلاثة مشاهد" الذي صدر مؤخّراً عن "دار سيث" المقدونية، بسعيد الذي يشدّد على "المسؤولية الأخلاقية والثقافية للمثقّفين" عمّا يحدث في المناطق التي يتداخل فيها عالم الإسلام مع الغرب.

كان فينتسا قد تلقّى في 2018 دعوةً للمشاركة في المهرجان الشعري الدولي "أصوات حيّة من المتوسّط في المتوسّط" الذي عُقد صيفَ تلك السنة في رام الله، فوافق بحماس على أن يذهب ليتعرّف على فلسطين، على الأرض بعد أن كتب عنها شعراً من بعيد في عام 1984. وبعد عودته نشر ستّ حلقات طويلة عن زيارته أثارت اهتماماً بما احتوته من تفاصيل ومعايشات عن أوضاع الشعب الفلسطينيّ تحت الاحتلال، ثم تابع اهتمامه وقرأ باهتمام الشعر الفلسطيني المعاصر وكتب عنه. ومن هذا الموقع شارك في النقاش الذي دار حول "اتفاقية واشنطن" التي ألزمت كوسوفو بفتح سفارة لها في القدس المحتلّة وفق القانون الدولي. وقد رأى، مع تجدُّد النقاش حول افتتاح "السفارة" في ربيع 2021، أن ينشر هذا كتابه الجديد الذي يضمّ ثلاثة أقسام.

تابع وقرأ باهتمام الشعر الفلسطيني المعاصر وكتب عنه

في توطئة الناشرة فيولتسا بريشا، التي هي تلميذة فينتسا وناقدة أدبية، تحكي عن خبرة ثلاثة أجيال من الكتّاب في السفر عبر العالم، حيث كان الجيل الأول يهتم بتدوين أدق التفاصيل لينشرها في "ريبورتاج" جاذب للقرّاء، بينما يكتفي الجيل الثاني بإرسال بطاقة بريدية لأصدقائه تحمل صورة ما ترمز إلى البلد الذي يزوره، بينما أصبح الجيل الثالث يعتمد على "السِّلفي" لينشر بعض الصور في حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي. بين هذه الأجيال، ترى بريشا أنّ فينتسا لا يزال يعاند الزمن ويحرص على أن يدوّن الملاحظات المختلفة خلال سفراته لكي يعود إليها في كتابة "ريبورتاج" أدبي مع الصور يجذب القرّاء للاقتراب أو التعرف على دولة أو منطقة تبدو قريبة وبعيدة في آن، أو متناقضة الفهم حسب الموقف السياسي.

هذه الملاحظة الثاقبة تنطبق على "الريبورتاج" الواسع (ستّ حلقات طويلة) الذي نشره فينتسا بعد عودته من رام الله في 2018 في جريدة "ديتا" بين 13 و19 آب/ أغسطس، وقُرئ باهتمام نظرا للمقاربة "السعيدية" فيها، حيث إنَّ المؤلّف، باعتباره من المثقّفين المشاكسين لا المساكنين، يرى أنه لا بدّ أن يكون له رأيه الخاص بمعزل عن مواقف حكومة دولته التي يحمل جواز سفرها (كوسوفو) في ما يحدث للشعب الفلسطينيّ، سواء في "الأراضي الفلسطينية" التي يُفترض أن تكون له حسب "اتفاقية أوسلو"، أو في القدس التي لا تزال تُعتبر محتلّة وفق القانون الدولي.

وبعد نشر "الريبورتاج"، تصاعدت التطورات المفاجئة مع التوقيع على "اتفاقية واشنطن" في 4 أيلول/ سبتمبر 2020 التي ألزمت كوسوفو بفتح سفارة لها في القدس المحتلّة، وما صاحب ذلك من نقاش وجدل واسعين بين المثقّفين الكوسوفيّين، وهو ما دفع فينتسا إلى أن يعيد نشر الريبورتاج ضمن الكتاب الجديد بعنوان "فلسطين في ثلاثة مشاهد". وإذا كان "الريبورتاج" يمثّل المشهد الأول في الكتاب، فقد احتل المشهد الثاني (الأدبي) ما كتبه المؤلّف عن المختارات الشعرية الجديدة من أعمال الزميل نجوان درويش التي صدرت في مطلع 2021، بينما احتلّ المشهد الثالث (الفكري السياسي) النقاش حول السفارة الكوسوفية في القدس المحتلّة باعتبارها "أول سفارة لدولة مسلمة".


الأرض المحتلة بعد أوسلو 
يقدّم المشهد الأول صورة بانورامية عن الواقع الفلسطيني على الأرض بعد اتفاقية أوسلو التي لم تحمل حلّاً حقيقياً، بل مزيداً من التعقيد وانخفاض السقف التحرري. وفي جملة ذات مغزى، يقول المؤلّف عن التقسيم السوريالي لمناطق "السلطة الفلسطينية" إنّ مديرة "مسرح عشتار" الفلسطينية حاولت أن تشرح له بالفرنسية الوضع القائم، ولكنه لم يستطع أن يستوعب ذلك "حتى لو شرحَت ذلك في الألبانية"، لغرابة المشهد لزائر كان يتصوّر الواقع الفلسطيني غير ذلك. فقد اكتشف أن "السلطة الفلسطينية" بالأعلام الكثيرة تسيطر بالكاد على 20% من مساحة "الأراضي الفلسطينية"، بينما تُرك القسم الأكبر أو منطقة ج (62%) لشهية الاستيطان اليهودي.

يتمسّك بموقف مستقّل عن حكومة بلده من قضية فلسطين

كانت القدس مغرية بالطبع للزيارة، سواء للمؤلّف أو لكل المشاركين الأجانب في المهرجان الشعري. ولكن المؤلّف فوجئ بـ "التفتيش القاسي" الذي نفّذته السلطات الإسرائيلية عليهم، وهو ما يجعل القارئ يتساءل: إذا كانت السلطات الإسرائيلية تعامل الضيوف الأجانب في مهرجان دولي بهذا الشكل، فكيف تعامِل الفلسطينيّين الخاضعين لها؟

في هذا السياق، يكتشف المؤلّف مفارقة مؤلمة حيث يقول: "بسبب إفناء النازيّين لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، اتّخذت الأمم المتّحدة قراراً بتشكيل دولة جديدة في هذا الاقليم: دولة اسرائيل". ولكن بعد ما عايشه من ممارسات إسرائيلية ضد الفلسطينيين في "الأراضي الفلسطينية" ينتهي إلى أنه "في بعض الأحيان سيطبّق الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيّين نفس الطرق التي طبّقها النازيون ضدّهم: الفصل العنصري (الأبارتهايد) الذي ينتهك حرية وهوية وحتى وجود الآخر".

ومن الطبيعي هنا أن يهتمّ المؤلّف بموقف المثقّفين اليهود من ذلك، فيقف عند موقف الروائي عاموس عوز، الذي يرى أنَّ "الأزمة بين الشعبَين يجب أن تُحلّ سلمياً بتأسيس دولة فلسطينية وتقسيم القدس إلى قسمين: الشرقية لفلسطين، والغربية لإسرائيل"، وإن كانت دوافع عوز هنا ليست صادرة عن مبادئ العدل، فالدولة الفلسطينية بالنسبة إليه - وإلى جزء من "اليسار الصهيوني" - هي ضرورة للحفاظ على مستقبل المشروع الصهيوني ولا يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني. 

وفي هذا السياق الثقافي أيضاً، زار المؤلّف ضريح الشاعر محمود درويش، وقدّم هدية لمديره مختارات من شعر درويش كانت صدرت بالألبانية عام 2008، ويتحدّث بتقدير عن أشعاره "المقاومة" التي كان لها دورها في التشبُّث بالأرض والهوية، وهو ما جعله يستحق بجدارة عدداً من الجوائز العالمية، ومنها جائزة "الإكليل الذهبي" التي يمنحها "مهرجان ستروغا الشعري" الذي بدأ في يوغسلافيا السابقة واستمرّ الآن في جمهورية مقدونيا الشمالية بعد استقلالها. ونظراً إلى أنّ فينتسا كان عضو لجنة تحكيم الجوائز في هذا المهرجان واستقال احتجاجاً على معاييرها، يكشف هنا أن لجنة الجائزة منحت الشاعر اليهودي يهودا أميهاي هذه الجائزة في 1995، ورأت بعد ردود الأفعال أن تمنح الجائزة للشاعر الفلسطيني محمود درويش في 2007، أي قبل رحيله بسنة.


أن تكون شاعراً في فلسطين
في القسم الثاني، أو المشهد الأدبي، الذي يحمل عنوان "أن تكون شاعراً في فلسطين" ينتقل فينتسا من درويش الأوّل (محمود) إلى درويش الثاني (نجوان)، بمناسبة صدور مختارات بالألبانية من دواوينه المنشورة خلال 2000-2020، بعد أن صدرت مختارات أُخرى من شعره بالكرواتية والمقدونية في السنوات الماضية ليصبح معروفاً الآن في البلقان من خلال اللغات الثلاث التي تغطّي سبع دول (كرواتيا والبوسنة وصربيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وكوسوفو وألبانيا).

ومن خلال تتبُّعه لتجربته الشعرية ومقابلته مع الجريدة الكرواتية المعروفة "يوتارني ليست"، ينتهي فينتسا إلى أن نجوان درويش "مبدع يكافح في سبيل حرية شعبه وحرية الإنسان بشكل عام كفرد"، وهو "لا يتردّد في قول الحقيقة عن شعبه دون أن يقع في كره الآخرين بمن فيهم اليهود"، حيث إنه يميّز بين اليهود والصهاينة. ويتوقّف فينتسا عند عناوين القصائد (لاجئ من كريت، شركسي رحّل، في قطار إلى أسوان، في الأستانة، حكاية أرجوحة من نيكاراغوا، وغيرها...) ليوضّح كيف أنّ خريطة هموم الشاعر لا تشمل شعبه فقط، بل تحمل الرموز التي تعبّر عن الشعوب الأُخرى التي تكافح في سبيل هويتها وحريتها.

وفي تحليله لشعرية نجوان درويش، يقول فينتسا: "لا يوجد في أبياته استعراضية شكلية بل اكتشافات ومفاجآت. لا يستخدم كثيراً الصفات بل نادراً، وليس لديه وعظ أخلاقي بل يكتفي بما يقدّمه من "أدلة"، ولا تنعدم إشارات التنقيط في أشعاره، ولكنه يوفّر استخدامها لما هو ضروري فقط. في قصائده عناصر "نثرية" (حكايات وشخصيات)، ولذلك تتردّد عنده الكناية:
"حاولتُ مرّةً أن أَجلِسَ/ على واحِدٍ مِن مَقاعِدِ الأملِ الشّاغِرة/ لكِنَّ كَلِمَةَ reserved / كانت تُقْعي هُناك كالضَّبع/ (لَم أجلس، ولَمْ يَجلِس أَحَد)/ مقاعِدُ الأمل دائماً محجوزة". 

يضيف: "إنّ ما يميز تجربة درويش الثاني التكثيف. فقصائده تكتفي بالقليل من الكلمات مثل "المعلّم حزين من أجل تلميذه"، و"إلى النبي"، و"الموت"، وغيرها التي لا تتجاوز خمسة أو ستة أبيات، إلّا أن قوّتها تكمن في التركيب التشكيلي"، ليختم: "إنّه لا يكتب قصائد دعائية، بل يقاوم الدعاية بقصائده".


حكاية مريعة من زمن ترامب 
وفي القسم أو المشهد الثالث (الفكري السياسي) بعنوان "المدينة المقدّسة واللعبة مع السفارة"، تناول فينتسا أوّلاً ردود الأفعال على افتتاح السفارة الكوسوفية في القدس: من الذين يعتبرونه "حدثاً تاريخياً" إلى الذين يتحفظون على هذا الافتتاح المفروض من الرئيس الأميركي السابق ترمب، والذي قامت به حكومة كوسوفية أصبحت معروفة لاحقاً بكونها "غير شرعية". وفي هذا السياق يستعرض ردود الأفعال في العالم من الاتحاد الأوروبي الذي أبدى اعتراضه على ذلك لكونه يتعارض مع قرارات الأمم المتّحدة، وإلى اعتراض تركيا الحاد نسبياً، والذي قالت فيه إنّ افتتاح السفارة يمكن أن يلحق الضرر بعلاقات كوسوفو مع الدول الإسلامية.

ويلاحظ هنا أن جزءاً من النقاش حول افتتاح السفارة تحوّل إلى انتقاد تركيا من قبل اللوبي المعادي لها ولإرثها العثماني، بينما يقول فينتسا إنَّ المرء يمكن أن يتّفق أو لا يتّفق مع سياسات الرئيس التركي أردوغان، ولكن هذا لا يمسّ العلاقة الوطيدة بين تركيا التي أصبحت قوّة عظمى من نوع خاص وكوسوفو التي دعمت استقلالها بقوّة.

وفي ردّه على هذا اللوبي في كوسوفو، يعيد فينتسا الموضوع إلى الأصل الذي لا ينبغي خلطه مع غيره من المواضيع: "لا يبدو من العدل، وخاصة من الناحية الإنسانية، عدم الإحساس بما يعانيه الشعب الفلسطيني وكل شعب مضطهد في العالم". ومن ناحية أُخرى، يقول إنه كان من المتوقَّع أن تعترف "إسرائيل" باستقلال كوسوفو بدون شروط، بينما جاء الآن الشرط المفاجئ بأن تكون السفارة الكوسوفية في القدس، ليتمّ الترويج لها بكونها "أول سفارة لدولة مسلمة".

وفي هذا السياق، يمسّ التوتّر الجديد، الفلسطيني- الكوسوفي، بقوله "إنّ موقف بعض السياسيّين الفلسطينيّين غير مناسب تجاه النزاع الكوسوفي- الصربي، ولا أدري إذا كان هذا يقتصر على السفير الفلسطيني في بلغراد (محمد نبهان) أم أنه يمثّل وزارة الخارجية والسلطة". وتجدر الإشارة إلى أنّ نبهان أصبح متخصّصاً، خلال السنوات الأخيرة، في إصدار التصاريح التي تثير الرأي العام الكوسوفي وتخدم اللوبي المؤيد لـ "إسرائيل" في كوسوفو.

فلسطين في ثلاثة مشاهد

في ختام هذا القسم أو المشهد الثالث، ينتهي فينتسا إلى أنّ "هذه هي اللحظة الأخيرة للدبلوماسية الألبانية أن تستيقظ وأن يكون لها موقفها الواضح"، مستشهداً بما كان من مواقف لمثقّفين ورجال دولة تجاه فلسطين، ومن ذلك موقف مهدي فراشري حاكم القدس في 1912، وممثّل ألبانيا في عصبة الأمم الذي ألقى كلمة بليغة خلال مناقشات العصبة للوضع في فلسطين عام 1937 دعا فيها (بالاستناد إلى خبرته الشخصية كما قال) إلى أن تكون فلسطين سويسرا الشرق، وأن تتشكّل فيها كانتونات عربية ويهودية حسب الأغلبية الموجودة.

إن هذا الكتاب الجديد يمثل مقاربة مثقف سعيدي كوسوفي معني بفلسطين كرمز للعدالة والتحرر قبل أن يزورها في 2018، لوضع سياسي مختل فَرض على كوسوفو مع الأسف أن تكون "أول دولة مسلمة" تفتح سفارة في القدس المحتلة. كتاب يفتح أُفقا للتواصل بين المثقّفين في البلدين، ويثبت أن المثقّف السعيدي يمكن أن يقول ما لا يتجرّأ السياسي على قوله، ويمكن أن يعبّر بذلك عما يجمع وليس عمّا يفرق بين الشعوب التي لها قضاياها المشتركة في الحرية والهوية والكرامة والمساواة.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

 

بطاقة 
أغيم فينتسا شاعرٌ وناقد وأكاديمي وُلد عام 1947 قرب مدينة ستروغا في جنوب جمهورية مقدونيا الشمالية، حيث يقام المهرجان الشعري الشهير. بعد إكماله الدراسة الثانوية في ستروغا، رحل فينتسا إلى بريشتينا عاصمة كوسوفو ليلتحق بقسم اللغة الألبانية وأدبها في جامعة بريشتينا لمتابعة دراساته العليا، ثم عمل فيها أستاذاً للأدب الألباني المعاصر حتى عام 2017، وهو يعتبر اليوم من أبرز الأصوات الشعرية والنقدية في بَلَدَيْهِ، مقدونيا وكوسوفو، وفي منطقة البلقان.

نشر أول دواوينه "الفينيق" (1972) حين كان طالباً في الماجستير، وصولاً إلى ديوانه العاشر "حنين إلى الأزمنة الخطرة" (2017)، وتُرجمت أشعاره إلى لغات عدّة؛ من بينها العربية والتركية والصربية والمقدونية واليونانية والإيطالية والفرنسية.

حين برز كصوت جديد في سبعينيات القرن الماضي، كانت فلسطين رمزاً ملهماً بالنسبة إلى الشعراء الألبان، نتيجةَ للتغطية شبه اليومية للأحداث الفلسطينية من بيروت للصحافي الكوسوفي المعروف نهاد إسلامي الذي غطى أيضاً مجازر صبرا وشاتيلا، ولذلك نجد فلسطين حاضرة في شعر فينتسا كما في نقده وتفكيره. في قصيدته "درس" (1985)، حين يسأل طفل الألباني أباه عما تعنيه كلمة الوطن، يحتار في الإجابة، قبل أن يقول ببساطة: "إنه فلسطين بالنسبة إلينا".

المساهمون