استمع إلى الملخص
- يعبر الكاتب عن حزنه العميق لفقدان منزله الذي أحرقه الجيش، ويصف شعوره بالألم الكبير والعجز والضياع نتيجة فقدان مكتبته وأثاثه وكل شيء عزيز عليه.
- يتحدث الكاتب عن الأثر النفسي العميق لفقدان منزله، وكيف أن هذا الفقدان يمثل خسارة للذاكرة والتاريخ والهوية، مما يزيد من شعوره بالألم والمعاناة.
(1) أنا والكابونة
كنت أجلس على أرض الخيمة البلاستيكية وحولي الطفلان يتقاتلان على ورقة بيضاء وقلم... أدخل طفلٌ رأسه في الخيمة وصرخ فينا: "نائب مدير المخيم يريدكم". جميعاً وقفنا كلٌ على باب خيمته.. جاء جيب كبير نزل منه ثلاثة أشخاص نظيفين تماماً، وراءهم شاحنة ضخمة. صرَخ فينا نائب مدير مركز الإيواء فاتحاً فمه عن آخره -أظن أنني استطعت أن أرى سقف حلقه وقتها-: اصطفوا في طابور. وقفنا سريعاً لكي يأخذ كل واحد منا حصّته مما تحمله الشاحنة.
الطابور، في ثقافات دول أخرى، وربما في سياقات أخرى أيضاً، شيءٌ جميل وإيجابي، فهو يدل على الحداثة والتقدم والانضباط والنظام واحترام الآخرين، لكن، ومنذ نزوحي هنا في المدرسة، فهو بالنسبة لي ملخص لأشدّ أنواع البؤس.
هل يمكن لعقلك أن يتصوّر كيف يمكن أن يرتهن أداؤك لاحتياجاتك الطبيعية لدورك في الطابور؛ حيث هذا المكان أصلاً مدرسة للأطفال، يسكنها الآن ما يزيد عن 1500 عائلة، كلّ ست عائلات أو أكثر في فصل دراسي، ومن لم يجد له مكاناً مثلي صنَع لنفسه خيمة في ساحة المدرسة... إذن، هناك ستّة حمامات فقط، هي أساساً مخصّصة لاستخدام أطفال المدرسة، نقف يومياً مقسمّين على ستة طوابير، كل حمام أمامه طابور.
تخيّل أن الناس يقومون من فراشهم قبل الفجر ليحصلوا على دور يأتيهم قرب الضحى أو الظهر؛ ولأن الطبيعة لا تعرف المواعيد، حدث كثيراً أن تحلّق الناس حول عجوز أو طفل خانه بوله، لينقسم الناس بين مأزومٍ وشامت وصارخ وزاجر وناهٍ، طالباً إياه أن يستعجل حتى يأخذ غيره دوره. هذا ليس طابور البؤس الوحيد في هذا المكان، يوجد واحد مثله تماماً أمام سيارة المياه، وآخر أمام طنجرة العدس الكبيرة... وواحد أمام فرن الطينة وطوابير أخرى كثيرة بعدد حاجتك للبقاء على قيد الحياة.
لكن لا أدري لماذا؛ هذه المرة كل شيء كان مؤلماً لدرجة أنني جلست جانباً أبكي من دون أن أجد أي مبرر يمكن ذكره للنسوة الفضوليات، اللاتي التفتن نحوي يسألنني عن سبب بكائي.
أبكي من دون أن أجد أي مبرر يمكن ذكره للنسوة الفضوليات، اللاتي التفتن نحوي يسألنني عن سبب بكائي
كانت حصّتي فرشتين، وغطاء، وكرتونة مساعدات غذائية صغيرة. في البداية، تحققوا من شخصيتي مرّات عديدة، وتفحصوني بدقة، وصوروني الكثير من الصور. حملت الأغراض الثقيلة، وضعتها جانباً في زاوية الخيمة، ومرة أخرى أخذت أبكي. وضعت رأسي بين ساقي وأخذت أبكي... هجم الطفلان على الكرتونة الصغيرة، وأخذا يمزقان اللاصق العريض عنها، ثم أخذا يطبلان عليها بفرح وبهجة، وأنا أتأملهما وأبكي. لا أعلم ما الذي جعلني أبكي كل هذا البكاء؟! الصور، الطابور أو ربما الموظفون الثلاثة.
كان الموظفون الثلاثة منفصلين عن الواقع إلى حدّ مؤلم، كانوا يدخنون السجائر المستوردة، وينظرون إلينا من خلف زجاج نظاراتهم الشمسية الثمينة. كانوا يرون كلّ ما نحن فيه من بؤس على أنه مشكلة تصلح لكتابة مقترح مشروع لجلب تمويل ما. ربما حزنت لأنني كنت بشكل أو بآخر مشكلة مقترح المشروع. أو ربما ما أنا فيه من حزن عميق هو بسبب فرحتي باستلام أكل وأشياء أخرى مجاناً، بالفعل هناك شيء ينكسر في داخلك في كلّ مرة تأخذ فيها شيئاً مجانياً، ربما كرامتك تنكسر أمامك مع كل كرتونة صغيرة، أو علبة معلبات. ثم شيئاً فشيئاً تصبح تنتظرها يومياً بفارغ صبرك.
لكن هذا الانكسار لا يحدث دفعة واحدة. في البداية، تخجل جداً، وتشكر الشخص الذي أعطاك الكابونة مرات ومرات.. ثم شيئاً فشيئاً تبدأ في البحث والسؤال والتسجيل في كل مكان محتمل، وعندما تحصل عليها تشعر بخدرٍ وسعادة عميقين، هذا الشعور هو نهاية الانغماس الخالص في المذلّة.
ويصبح هذا الانغماس سلوكاً يومياً ملحاً، ثم شيئاً فشيئاً تتحول من شخص لديه عفة ومال يستطيع من خلاله شراء ما يريد، إلى لشخص ينتظر أن يحصل على ما ينقصه من طعام وشراب عن طريق كابونة ومساعدة من الجهات المتعددة.
هذه هي بداية الاندماج في القطيع، فلو طلب منك وقتها رب هذه المساعدات أن تلقى نفسك في البحر ستفعل... هكذا وعلى مدار أكثر من سبعين عاماً جرى تجويعنا، وبرمجة عقلنا وكرامتنا عن طريق الموظفين النظيفين والكابونة.
في هذه اللحظة تضارب الصغار، تركتُ عقلي جانباً وذهبتُ أمزق اللصق العريض للكرتونة الصغيرة، وأهلل معهم مع كلّ علبة معلبات نستخرجها من الكرتونة.
■ ■ ■
(2) في رثاء البيت
كيف أرثى بيتي.. هل أستطيع أن أسرق من عمر هذا الموت المتواصل دقيقة حداد واحدة أبكي فيها ما استطعت من بكاء. منذ ذلك اليوم، وأنا أشعر بأنني كمن ابتلع المنجل، لا أنا أبصقه فارتاح، ولا أنا أبلعه فيمزّق أحشائي. شعور المنجل في حلقي ظلّ يلازمني من وقتها وحتى اللحظة. فكرتُ في كلّ شيء. فكرت كيف ظلّ البيت والعفش، وكلّ ما فيه من أدوات وأوان وكتب تشتعل حتى انطفأت وحدها... ما الذي أطفأها؟ الضجر؟ أو وربما اليأس؟ كيف ذابت مكتبتي العزيزة! كيف لا يوجد أي أثر لأي شيء!
اتصل بي الشاب، الذي لا أعرفه، الذي تعهّد برعاية المنزل بعد نزوحنا عنه قبل شهورٍ، ليخبرني بأن الجيش أحرق المنزل حرقاً كاملاً. بقيتُ لساعات بعد أن أغلق الموبايل أفكر في كلّ ما قاله: "أنا لا أعرف متى وكيف وكم ظلت مدة الحريق، أنا لا أعرف تفاصيل ما حدث. ما أعرفه أنني منذ أن استطعت أن أصل إلى البيت بعد أن انسحب الجيش، جئت إلى البناية فوجدتُ فتحة في الباب الحديدي من أسفل، يبدو أن الجيش دخل البناية مرة أخرى، ومكث فيها بعض الوقت ثم انسحب جنوده، وبعد انسحابهم، جئت إلى المكان فوجدت شقتك والشقة المجاورة لها محروقتين بشكل كامل".
هذا فقط كل ما استطعت أن ألتقطه من كلماته بسبب شبكة الاتصال الرديئة، والباقي تركته لخيالي لينسجه ويصنع منه حدثاً متكاملاً. كيف تصوّرت المشهد بعد ذلك؟
تصورت أنهم كانوا أربعة جنود مدججين بالسلاح والخوذ، ومعهم كلب عملاق. دخل الكلب أولاً، ثم الجنود الأربعة وراءه، ثم صعدوا الدرج. كان الكلب في المقدمة وهم وراءه. تجاوز الجميع الطابق الأول، واندفعوا صعوداً للطابق الثاني. لم يتوقف الكلب وثلاثة جنود عند مدخل الطابق بل واصلوا اندفاعهم نحو الطابق الثالث.. فقط الجندي الرابع في الطابق الثاني، في مقابل الشقة، نظَر إليها ملياً، ثم تذكر أمه وهو يتأمل المطبخ المقابل لباب الشقة مباشرة، تأمل الفرن الزجاجي، وتخيل أنها هناك تعد له البيتزا، وكان قد طلب منها شطائر التوت فغضب وقرر حرق المنزل.. أو لعله شاهد والده جالساً في زاوية الصوفا الدافئة، يرتدي نظارته الغليظة، ورداء النوم المقلم، ويقرأ الجريدة، وتذكر عندما أغضبه حينما حرمه من مصروف استحقه فقرر حرق المنزل..
أخبرني بأنهم أحرقوا منزلاً آخر وأقاربه بداخله، فذابوا جميعاً مثل الشمع ولم يعد لجثثهم أثر
ربما تذكر كيف كسر أخوه الأكبر لعبته المفضلة لديه فقرر معاقبته وحرق المنزل.. وربما غضب عندما رأى ألعاب الليغو الكثيرة ملقاة على الأرض، فتذكر ابنتيه في بيته فاشتاط شوقاً وحرق المنزل.. في هذه اللحظة، أعتقد أن الثلاثة الآخرين نادوا عليه، فاندمجت كل روائح الشطائر وأصوات الألعاب وصوت ورق الجريدة وأنفاس والده الغليظة، اندمج كلّ هذا في رأسه مرّة واحدة، وألقى في تلك اللحظة قنبلته، وترك المنزل يشتعل. وأكمل طي الطوابق مع رفاقه.
هكذا تصوّر عقلي المشهد، حدثتُ صديقاً بقي في مدينة غزة بما حدث للمنزل، وشرحتُ له كيف ذاب قلبي مع كل قطعة أثاث ذابت ومع كل ورقة كتاب احترقت، فأنا التي أعاني من تعلّق مرضي وأصادق الأشياء والأماكن، وأتحدث إليها، أشتاق لها وأعاتبها.. واساني الصديق بكلمات بسيطة، ثم اندفع وأخبرني بأنهم أحرقوا منزلاً آخر وأقاربه بداخله، فذابوا جميعاً مثل الشمع ولم يعد لجثثهم أثر، وقال لي أيضاً إنهم يأخذون ردم البيوت ويصنعون منه ميناء للسفن الكبيرة.. شهقتُ من هول الفكرة، كيف لا يعرفون ما الذي تعنيه حجارة البيوت المدمرة. هذه الحجارة ذاكرة وتاريخ، والأهم أن الكثير من سكان البيوت ما زالوا تحتها، وكثير من الحجارة امتزجت بأشلاء ساكنيها.. فكرة أخرى أصابتني بالقشعريرة: لو لم يحرقوا المنزل لأخذوا حجارته، وربما ما تبقى من جسدي أو أصابع أطفالي أو أرجلهم، ليعبّدوا فيه ميناء يطعمون من خلاله الجائعين.. أصابتني هذه الفكرة برغبة شديدة في التقيؤ..
كل شيء كبير ومؤلم وهائل، هذا الفقد بحجم الكون.. الأشلاء الملتصقة بردم المنازل.. صوت طقطقة أوراق كتبي، رفوف المكتبة، وهي تنادي علي حتى أنقذها من حريق يلتهمها.. بيتٌ أصبح مقبرة لساكنيه عندما عانقهم السقف والحائط عناقاً حاداً... أمّ، وما أكثر الأمهات، نمن ليلهن الطويل بأذرع فارغة.. وأطفال يبحثون عن قميص أبوهم بين الجثث المتخلفة.. وآخرون يوزعون المناشدات ليعرفوا مصيره بعد أن اختفى فجأة.. كلّه هذا الفقد مؤلم كما فقْد بيتي مؤلم أيضاً.
رفح، 19 آذار/ مارس 2024