أنطوان كومبانيون عن جدوى الأدب

15 أكتوبر 2024
+ الخط -

مع الضربات المتتالية التي تُوجّهها وسائل التواصل الاجتماعي وآليات الذكاء الاصطناعي إلى مسارَي الكتابة - القراءة بوصفهما نشاطاً فكرياً رصيناً، يعود السؤال عن قيمة هذا الفعل المزدوج وجدواه في "عصر السرعة" الذي تعاقبت فيه الأدوات الرقمية لتعوّض طاقات الإنسان اللغوية والإبداعية.

ولهذا السؤال تصدّى الأكاديمي الفرنسي أنطوان كومبانيون (1950) في كتابه "هل الأدب مُجدٍ؟"، الصادر مؤخّراً عن "دار إيكواتيرز" في باريس، محلّلاً إشكالية جدوى الكتابة الأدبية بعد أن نزع البداهة، في دراساته السابقة، عن مفاهيمها النظرية، مع التركيز على "الطائل" من وراء إنتاج نصوص متماسكة البناء، تتطلّب جهداً كبيراً في إنشائها ونظمها حتى تستوي عملاً مكتمل الأركان، كما بحث في حجم الآثار التي يمكن أن تُحدثها في الجمهور المُعاصر، وهو جمهورٍ شديد العجَلة عوّد فكرَه وأناملَه، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل سار، على التلاعب بالشاشة والقفز على محتوياتها، من دون الاهتمام الفعلي بالكتابة ولا بِمَن يكتب.

ضمن هذه المُحاولة، يُفكّك صاحب "شيطان النظرية" المفارقة الكُبرى بين الرغبة في ربح الوقت، وهو الهوس الذي يحكم أبناء عصرنا، والبطء الشديد الذي يميّز كلّاً من الكتابة والقراءة. ويسائل مبدأ "المردودية" التي يمكن أن تُجنى من صناعة النصوص ونشرها في عالم يقيس كلّ شيء بمقياس الربح المالي والرفاه الشخصي، ومن ثمّ يخلص إلى البحث في مصير الأدب إنشاءً وتلقّياً في سياق يحكمه التكالب على الثراء المادي والكسب السريع، فضلاً عن بروز أدوات وعادات رقمية في القراءة، باتت تُحبّذ المضامين السريعة (منطق تيك توك) أو التصفّح العرَضي (منطق فيسبوك)، حيث تتقابل سرعة التعامل مع المضمون الأدبي التي تشارف على اللامبالاة، مع بطء إنتاج النصّ وإنضاجه حتى يستوي غذاءً للعقل.

وأمّا "الجدوى" التي حلّلها الكاتب هنا، فتحمل معنيَين اثنَين: أوّلهما ما يمكن أن يجنيه الكاتب من عمله الإبداعي مادياً ووَجاهياً، والثاني ما يمكن أن يجنيه القارئ من توسيع للمدارك وانفتاح على القيم العليا يترفعان عن تفاهات الحياة اليومية وأعراضها. ومن أجل التدليل على هذه الجدوى، أقام كومبانيون مقابلة بين الربح واللذّة، أي بين منطق الكسب العاجل ولذّة الأدب العميقة، مؤكّداً أنّ متعة الوجدان الناتجة عن تملي النصوص لا يمكن أن تضاهيها لذّة الكسب المادي ولا حتى أن تُقارن بها، فهما "خَلجتان" للنفس مختلفتا المدى والأثر.

سؤال عن مصير الأدب في سياق يحكمه منطق الكسب السريع
 

وضمن التاريخ الثقافي للأدب، تُصوّر هذه المحاولة مرحلةً انتقالية في التعامل مع الكتب كأشياء مادية تحيل إلى أفكارٍ ومعلوماتٍ وخيالاتٍ تتطلّب قدراً أدنى من التأنّي والتركيز لاستيعابها. هذا النوع من الاستيعاب بصدد الاندثار أمام هجمة الوسائط الاجتماعية التي، وإن حافظت على مبدأ القراءة للمنشورات، فإنها غيّرت محتواها بالتركيز على الجُمل القصيرة والملفوظات العارضة التي تمرّ بالمتصفّح مرّ السّحاب فلا يتّخذها مرجعاً إلّا نادراً. وبذلك، فإنّ بنية المعرفة العميقة هي التي تغيّرت بسبب هذه التحوّلات الرقمية التي جعلت الذهن كسولاً، يعزف عن الانتباه والتركيز.

وهكذا، فهذه المحاولة صيحة ضدّ الاستهلاكية المفرطة التي صيّرت الإنسان "سلعةً تقتني سلعاً أُخرى" تحت وطأة الإشهار والتضليل. يستهلك البضائع المادية كما يستهلك الأخبار الزائفة والسريعة المتهافتة من دون حس نقدي. ولا شكّ أنّ القراءة، بما توفّره من لذّة وألم وتأمُّل، هي مَن يساعد على كسر طوق التقليد والاتباع الآلي للنسق الجمعي الذي بات يخنق الناس ويفرض عليهم وتيرة ضاغطة. وبهذه الصيحة، يُذكّر الكاتب أنّ "الأدب مجدٍ للغاية"، يُكسب صاحبَه معنى وجودياً عميقاً ينضاف إلى المعاني التخييلية التي يجتنيها أثناء القراءة، فتفيض عليه فوائد لا يمكن أن تقارَن بالربح المادي. 

هذا الربح الذي طالما يُخطئه الكتّاب أنفسهم حين تُفرض عليهم قوانين سوق النشر، بما فيها من ضغوط بعد اشتعال أسعار الورق وانخفاض المبيعات وانصراف القارئ عن الكتاب الذي كان شيئاً ثقافياً وموضوعاً نفيساً يتبارى الناس في اقتنائه لاستكشاف ما فيه من الأفكار والمعلومات.

وهنا يضرب الكاتب أمثلة عديدة على أدباء فرنسيّين عانوا ويلات البؤس ولم يجنوا ثمرات أعمالهم، لا ربحاً مادياً ولا وجاهة اجتماعية أو سياسية، بل إنّهم لم يظفروا من حقوق طبعهم إلّا بالنزر اليسير. وبهذه الأمثلة، يكسر محظور البُعد المالي للأدب الذي يرى فيه "حركية إنتاجية" مثل غيرها من الحركيات المندمجة في الدورات الاقتصادية لأيّ بلد، ولا يمكن فهمها بمعزل عن هذه الدورة.  

وبهذا التحليل يكون الكاتب قد تصدّى لثلاثية الكتابة والقراءة والنشر، وهي مقوّمات العمل الأدبي. وبغياب أحدها، تسقط ماهيته. وقد تناولها في فترة طغيان قوانين السوق، من أجل استقصاء الآثار السلبية على هذه الجوانب الثلاثة. ولذلك اتّبع الكاتب الأسلوب المباشر القاطع في عمل أشبه ما يكون بخطاب توعية وتحسيس موجَّه إلى الضمير الأوروبي حتى يكسر إملاءات السوق وقوانينه ويتحرّر من هيمنة منطق الربح التجاري، على أمل أن ينفتح الباب من جديد أمام التجارب الجمالية وآثارها على الوعي التي سبق لبول ريكور أن حلّلها في كتاب "الاستعارة الحيّة"، مبيّناً أنّ الأدبية هي "نظرة للعالم وكيفية للحضور فيه"، ويكفي هذا مكسباً. 

هل يمكن أن نعتبر هذه المرافعة انعكاساً للرفاهة الغربية ومركزية دول أوروبا التي أحسّت بالحاجة إلى نبض الروح بعد أن غمرتها السلع وتاهت في مسالك الاستهلاك والتشيُّؤ؟ نعم، ففي ثنايا الكتاب إشارات عديدة إلى أنّ هذه الإشكالات تخصّ مجتمعات الوفرة، حيث لا ينشغل الفرد بتوفير لقمة العيش ولا بالفرار من ويلات الحروب والأزمات والتوترات كتلك التي تعصف بدولنا العربية. كما تـؤكّد المرافعة أنّها تخصّ الكتابة- القراءة نشاطَين "للنُّخَب" الثرية التي لا تكابد لكسب رزقها اليومي، بل تبحث عن "معنى" وراء الوفرة والرفاه.

بطء في إنتاج النصّ وإنضاجه تقابله سرعةٌ في التلقّي

إلّا أنّ هذه الآفات تشمل عالمنا العربي بالحدّة نفسها، ويكفي أن نستذكر ما قاساه الكتّاب والشعراء العرب من مآسي الفقر. وتكفي هنا الإشارة إلى بدر شاكر السياب الشاعر العراقي، وطاهر أبو فاشة كاتب المسرحيات المصري، ونجيب سرور إلى جانب أمل دنقل ومحمد الماغوط ومحمود بيرم التونسي والقائمة طويلة، وكلّهم عاشوا في فقر رغم إبداعهم.

وأمّا في الثقافة العربية القديمة، فالأمثلة أكثر من أن تُحصى أشهرها أبو حيان التوحيدي الذي كان يستجدي الأمراء والوزراء من أجل دراهم يُمسِك بها رمقه، والفارابي الذي كان يقتات من عمل يده... وغيرهما كثير. وأمّا مَن برع في تصوير جدلية الأدب والذهب فهو بلا منازع الحريري والهمذاني في المقامات، حيث كان بطلاهما يوظّفان الأدب احتيالاً في اجتناء الثروات، وغالباً ما كانا ينجحان في ذلك.

وهكذا، فإنّ هذا الكتاب بمثابة "مرافعة" من أجل الأدب ومتعة القراءة التي تعيد بناء المعنى تدريجيّاً، كما بين ذلك رولان بارت (الأستاذ المباشر لكومبانيون)، وهو ما يضفي "جمالية" تتعالى بالقارئ عن ثقل الحياة اليومية. والمرافعة، في جوهرها، دفاعٌ عن التأنّي في مقابل اللامبالاة والارتخاء الذهني، وهي دعوة إلى الاستثمار في اللغة وجمالياتها الخبيئة البطيئة، التي لا تنكشف إلّا بعد طول المعاشرة و"قرع الباب مرّةً بعد أُخرى" كما كان يقول عبد القاهر الجرجاني الذي تصدّى لقضايا بناء المعنى.

وهو ما يجعل من هذه المحاولة استنطاقاً لمصير الأدب في دوّامة التحوّلات الرقمية المتسارعة ونسقها الجنوني الساعي إلى الربح السريع، جرياً إلى الإحاطة بكلّ شيء في نقرة واحدة، وحتى بنبرة آمرة باتت الشاشات تلتقطها فتُنفّذها. وهذا من الأوهام العريضة للإنسان وحيد البُعد.

 

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون