على كثرة الدراسات التي تناولت صورة العرب لدى الرأي العام الغربي، ودور الإعلام في تكوين هذه الصورة، نلاحظ فقراً كبيراً في الدراسات التي تتناول صورة العرب لدى العالم الشرقي نفسه، ولا سيّما في تركيا، الجارة وصاحبة التاريخ المشترك مع العرب لأكثر من خمسمائة عام. فقرٌ يُسَجَّل خصوصاً بعد تعرُّض الشعبين لقطيعة استمرّت لما يقرب من ثمانية عقود، كتب كلٌّ منهما خلالها أسبابَه في القطيعة التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى. من هنا جاءت أهمّية الدراسة التي أعدّها الباحث والأكاديمي العراقي إبراهيم الداقوقي (1934 ــ 2008) في منتصف التسعينيات، تحت عنوان "صورة العرب لدى الأتراك" (مركز دراسات الوحدة العربية، 1996) ولعلها أوّل دراسة في هذا المجال بعد القطيعة.
ورغم مرور ربع قرن على صدور هذه الدراسة، فإنّها تظلّ من أبرز ما كُتب في هذا السياق. وقد بدأت علاقة الداقوقي بالثقافة التركية مبكّراً، حيث وُلد في مدينة داقوق، قرب كركوك في العراق، لأب تركماني وأم كردية، وعُيِّن ملحقاً صحافياً في السفارة العراقية بأنقرة في أوائل الستينيات. وإلى جانب ترجماته لبعض الأدباء الأتراك إلى العربية، وعلى رأسهم يشار كمال، عمل أيضاً على العديد من الدراسات حول الثقافة التركية، من بينها رسالته عن الشاعر العثماني فضولي، وشارك مع آخرين في إعداد قاموس عثماني - تركي - عربي صدر في أربعة مجلّدات.
يرى في اعتراف تركيا بـ"إسرائيل" عام 1948 بدايةً للقطيعة
خلال إقامته لسنوات في تركيا، انخرط الداقوقي في الحياة الثقافية ببلد ناظم حكمت، وأقام علاقات وطيدة بعدد كبير من الكُتّاب والأكاديميين الأتراك، وعمل محاضراً في قسم الآداب في "جامعة مرمرة" بإسطنبول. في تلك الأثناء، لاحظ الداقوقي صورتَيْن نمطيّتين عن العرب في تركيا، الأولى تصفهم بـ"التخلّف" المتمثّل بالصراع القائم بين العرب أنفسهم، وتقدّمهم كمسرفين ومحبّين للنساء ولا يمكن الاعتماد عليهم، والثانية تربطهم بالإسلام فقط، وتُعيد وصفهم بـ"القوم النجيب" الذي أنجب الرسول محمداً، وهي تسمية عثمانية قديمة.
في هذا السياق، سعى الداقوقي لتتبُّع مكوّنات الصورة العربية، سلباً وإيجاباً، لدى الرأي العام التركي، وامتدادات وتقلّبات وتناقضات هذه الصورة في دراسته حول صورة العرب لدى الأتراك. وقد بدأها بتناول تاريخ العلاقات الثقافية المشتركة بين الشعبَيْن، منذ استخدام الأتراك للحروف العربية في القرن العاشر الميلادي، ومحاولات محمود الكشغري في القرن الحادي عشر تعليم العرب اللغة التركية في معجمه الشهير "ديوان لغات الترك"، الذي أهداه إلى الخليفة العبّاسي المقتدي بأمر الله. بالإضافة إلى تناوله لمسألة تأثير العربية في اللغة التركية، وتأثير الأخيرة في اللهجات العربية.
يركّز الداقوقي في دراسته على مرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية، عندما أصبح العرب والأتراك على مفترق طرق بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، وثورة بعض العرب على الاتّحاديين. ويؤكّد أن مصطفى كمال باشا، قائد حركة التحرير الشعبية لإنقاذ الأناضول، الذي سيؤسّس الجمهورية التركية فيما بعد، كان على اتّصال بالقوميين العرب في سورية والعراق في أثناء حرب الاستقلال من أجل تحقيق الأهداف القومية للعرب والأتراك معاً ضدّ مطامع الغرب في بلادهم. إلّا أنّه يرى أنّ المخابرات الفرنسية لعبت دوراً بارزاً في قطع الطريق على محاولات الصلح والتفاهم بين العرب والأتراك، من خلال إرضاء مصطفى كمال بالانسحاب الجزئي من الأناضول.
ورغم أنّ أتاتورك عزل تركيا عن محيطها العربي، كما هو معروف، فإنّ الداقوقي يرى أنّ العرب لم يكن لديهم ذات الموقف من الجمهورية التركية الوليدة، وأنّ اعتراف تركيا بالكيان الصهيوني المحتلّ عام 1948، أي بعد رحيل أتاتورك بعشرة أعوام، هي نقطة التحوُّل الحقيقية في علاقة العرب بتركيا، وأنّ العلاقات بينهما مرّت بفترات ركود وتوجّس حتى وصول سليمان ديميريل إلى الحكم عام 1993، وهو الذي وعد بأن تقف تركيا إلى جانب العرب والمسلمين في قضاياهم المشروعة، وأُقيمت في عهده عدة مؤتمرات في أنقرة والقاهرة وبيروت من أجل مناقشة المشاكل الرئيسية التي تعترض سبيل العلاقات بين العرب والأتراك، في ضوء التحوّلات على صعيد السياسة الدولية.
يدعو الشعبين إلى عدم التوقّف عند عقد سوداوي من علاقتهما
ومن بين أبرز العوامل التي يرى الداقوقي أنّها أسهمت في تكوين الصورة السلبية عن العرب لدى الرأي العام التركي، هي ظاهرةُ التطرُّف القوميّ فيه، إذ تبنّى بعض المفكّرين الأتراك فكرة الوحدة التركية الممتدّة من البحر الأدرياتيكي حتى شمال الصين، وأنّ ثلاثينيات القرن الماضي شهدت إعادة كتابة التاريخ التركي بناءً على نبذ التراث العثماني بأكمله، ووفقاً لأفكار مؤرّخي الفترة الكمالية المتشبّعين بالأفكار القومية المتطرّفة، التي تتجاهل العرب، ولا تذكرهم إلّا كأعداء وخوَنة وطاعني الأتراك في الظهر.
ولعلّ أهمّ فصول كتاب الداقوقي هي التي يتتبّع فيها الثابت والمتحوّل في الصورة العربية لدى الأتراك داخل أنماط الفولكلور وفي الكتب المدرسية ووسائل الإعلام التركية منذ تأسيس الجمهورية حتى منتصف التسعينيات. ويذهب الداقوقي إلى أنّ الفولكلور الشعبي التركي تأثّر لوقت طويل بالفولكلور العربي، وأنّ معارف الإنسان الشعبي التركي لا تكاد تختلف عن معارف الإنسان الشعبي العربي، نظراً للتاريخ المشترك الطويل، الذي أفرز الكثير من الحكايات والسيَر الشعبية والأمثال والتعابير التي وجدت فيها العامّة طريقاً للخلاص من الكبت النفسي والاجتماعي الذي كانت تعاني منه.
ورغم هذا التشابه، يرى الداقوقي أنّ الفولكلور التركي لم يخلُ من بعض الصور السلبية عن العرب، ناظراً إليها كنتاج للتراكم الثقافي بين الشعبين والخبرة التاريخية والتفاعل الاجتماعي - بأفراحه وأتراحه. إلّا أنّ هذه الصور الفولكلورية السلبية عن العرب بدأت في الزوال، ولا تُذكر في الأدب الشفاهي التركي إلّا لماماً، خصوصاً في المدن الكبرى المتأثّرة بالثقافة الغربية فقط. ومن أبرز الملاحظات التي يسلّط الداقوقي الضوء عليها في سياق تشويه صورة العرب في الكتب المدرسية التركية، أنّ مؤلّفي هذه المناهج أرادوا إضفاء صفة الدين على مسألة "خيانة" العرب للأتراك، إضافة إلى جانبيها العسكري والسياسي، من خلال الإيحاء بأنّ العرب وقفوا ضد خليفة المسلمين، من دون أخذ التطلّعات القومية لشعوب الدولة العثمانية - ومنهم العرب - بالاعتبار، أو من دون الحديث عن الاستبداد الذي مارسه الاتّحاديون في الولايات العربية.
يخصّص المؤلّف فصلاً مهمّاً أيضاً عن صورة العرب في الصحافة التركية، من خلال تحليل المضمون للموادّ المنشورة عن العرب من أخبار ومقالات وتحقيقات وكاريكاتيرات في أبرز عشر صحف تركية خلال ثلاثة أشهر، التي تغطّي الفترة من 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 حتى 20 شباط/ فبراير 1994، وهي صحف متنوّعة تمثّل التيّارات السياسية المختلفة في تركيا، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
ووفقاً للإحصائيات التي أجراها الداقوقي، فإنّ الصحف كافة، بغضّ النظر عن اتجاهاتها، قد نشرت شيئاً عن تطوير العلاقات العربية التركية، وإن كانت الصحافة ذات الاتّجاهات الإسلامية أكثر اهتماماً بهذه العلاقات، تليها الصحافة اليسارية، فيما تتجاهل الصحف القومية الحديث عن العرب. ويلاحظ اتّفاق معظم الصحف التركية ـ الخاضعة للدراسة ـ على التنديد بأعمال الصهيونية ضدّ العرب، باستثناء صحيفتي "حرّيّت" و"ملّيت"، حيث دعتا إلى ضرورة توثيق علاقات تركيا بالكيان الصهيوني، بل إن "حرّيّت" هي الصحيفة التركية الوحيدة التي انحدرت إلى وصف الفلسطينيين بـ"الإرهابيين".
وتتضمّن دراسة الداقوقي أيضاً استطلاع آراء بعض المثقّفين الأتراك حول العرب، إلى جانب استطلاع رأي لشرائح مختلفة من الأكاديميين والطلّاب وأعضاء الأحزاب التركية. بالإضافة إلى بعض المقترحات حول كيفية تغيير صورة العرب لدى الرأي العام التركي، ودعوة المؤرّخين الأتراك إلى عدم تركيز الاهتمام على سنوات الحرب العالمية الأولى وثورة الشريف حسين على الإدارة العثمانية، إلى جانب دعوة المؤرّخين العرب إلى عدم الوقوف عند العقد الأخير من عُمر الدولة العثمانية واستبداد الاتّحاديين.
جديرٌ بالذكر أن للداقوقي دراسة أخرى مكمّلة لهذه، ولا تقلّ أهمية عنها، صدرت عام 2001 عن المركز نفسه بعنوان "صورة الأتراك لدى العرب"، واتّبع فيها المنهجية التي سلكها في بحثه الأوّل. وإذا كانت صورة العرب لدى الأتراك قد رصدت مراحل التوتّر التي مرّت بها علاقة الشعبين منذ انهيار الدولة العثمانية حتى منتصف التسعينيات، فإننا بحاجة إلى دراسات جديدة في ذات السياق، خصوصاً بعد انتهاء سنوات عزْل الشعبين بعضهما عن بعض، وانفتاح تركيا على العالم العربي خلال العقدين الآخرين.