شكّلت معسكرات الاعتقال التي أقامتها الولايات المتحدة لليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية صدمة كبرى للفنان إيسامو نوغوتشي، المولود من أب ياباني كتب الشعر وأُم أميركية عملت في الصحافة، ولم تنجح محاولاته في تصميم معسكر بشروط أكثر إنسانية، فاستعار ميثولوجيا القمر اليابانية التي تشير إلى فكرة التضادّ مع الشمس والريح.
أراد أن يعبّر عن حالة لا ينفصل خلالها النور والظلام، والأمل واليأس، في سعيه للتعبير عن الهزيمة الفادحة التي لحقت ببلاده، حيث خلق مناظر أحلام غامضة على سطح أقماره، من سلسلة منحوتات من الأشكال التجريدية التي تحتفي برموز طوطمية، وسعيه لإظهار سطح الخشب والرخام والحجر قريباً من ملمس جلد الإنسان.
يعبّر عن حالة لا ينفصل خلالها النور والظلام والأمل واليأس
يُفتتح، صباح بعد غدٍ الخميس، في "مركز باربيكان" بلندن معرض استعادي لنوغوتشي (1904 - 1988)، ويتواصل حتى التاسع من كانون الثاني/ يناير المقبل، ويضمّ أكثر من مئة وخمسين عملاً، إلى جانب تصميماته لعدد من المسارح والملاعب وقطع الأثاث والمصابيح الكهربائية.
استفاد الفنان من معرفته بفن الخط والأزياء والرقص، باحثاً عن أسلوبه الخاص في مرحلة هيمنت المجسّمات الفولاذية على النحت في الولايات، والتي رأى فيها تعبيراً عن جفاء وبرودة تعكسهما الحداثة وعدم إدراكها التنوّع الثقافي كجزء أساسي من الحضارة الإنسانية.
تأثّر نوغوتشي في أعماله بنماذج من حضارات مختلفة، إذ ألهمته الطريقة التي بُنيت بها خمسة مراصد فلكية في مدينة جايبور بالهند، حيث استخدم الحجر في تصميم الأدوات التي استُخدمت لقياس حركة القمر والنجوم والأجرام السماوية. ورغم مرور نحو مئتي عام على تنفيذها، إلّا أن غرابة شكلها قادته إلى الإيمان بأن فرادة العمل لا صلة لها بحالة الانسجام الظاهرية التي بحث عنها النحّانون في العصر الحديث.
خلاصةٌ ولّدت لديه الرغبة في تقديم منحوتات هجينة تحمل رؤية راديكالية تجاه العالم الذي تحاربت قواه لعدم قدرتها على استيعاب التعدّد في السياسة والاختلاف بين ثقافات المجتمعات البشرية، ودفعته إلى التمسّك بدمج مكوّنات متناقضة حيث الفن وحده قادر على تخيّل التغيير وتحقيقه.
تأثّر نوغوتشي بمعلّمه النحّات الروماني قسطنطين برانكوسي (1876 - 1957) الذي أدار ظهره لقولبة النحت ضمن رؤية واقعية، وذهب إلى تبسيط عناصر الطبيعة ونحتها بشكل اختزالي تجريدي، لذلك سادت الأشكال البيضوية والأسطوانية على منحوتاته، بدلاً من الزوايا والاستطالات، وتظهر محاكاة نوغوتشي له في عدم التزامه بمادة واحدة في نحته وتجاوزه فكرة وجود قاعدة واحدة في العمل الفني.
وتُبرز الأعمال المعروضة ثيمة رئيسية تتصل بعدم فصل النحت عن الواقع وجعله جزءاً من الحياة اليومية وفوضاها التي لا يمكن انتظامها في نسق أو بناء محدّدين، في قطيعة مع النحت الأوروبي الذي نظر إليه من زاوية التقديس أو الارتقاء عن الفضاء العام فترة طويلة.
تُعرض أيضاً مجموعة من الأزياء التي صممها نوغوتشي لمسرحية "الملك لير"، حيث تمّ تقديمها في إنديانا عام 1955، بأسلوب مثير للجدل ويختلف عن هيئة ملك عاش في القرن الثامن قبل الميلاد، مع فوانيس مستوحاة من التراث الياباني صمّمها في الخمسينيات، إلى جانب أوانٍ منزلية ومجسّمات للكرة الأرضية.