إيمان خليف.. كيف فكّكتْ خطابات الحداثة في 46 ثانية

09 اغسطس 2024
إيمان خليف بعد فوزها على منافستها الإيطالية (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تباين الجندر في أولمبياد باريس**: مشاركة إيمان خليف كشفت الفجوة بين المجتمعات الغربية والشرقية في فهم الجندر، وأبرزت التناقضات في مقاربة مفهوم الرياضة التقليدية مقابل الاستعراض.

- **الاستعراض والهزيمة الحضارية للغرب**: انسحاب الملاكمة الإيطالية وركوعها باكية عكس هزيمة الإنسان الغربي المعاصر الذي يفضل دور الضحية على الشجاعة، مما يعكس التحولات الفكرية نحو البراغماتية والاستعراض.

- **إيمان خليف بين الأيديولوجيات**: إيمان وجدت نفسها في جدل أيديولوجي بين اليمين واليسار في الغرب، حيث دافع اليسار عن حقها كمتحولة جنسياً، بينما أنكر اليمين ذلك، متجاهلين أنها امرأة موهوبة تعبر عن نفسها من خلال انتمائها الوطني والرياضي.

أخرجت بطلةُ الملاكَمة الجزائرية إيمان خليف، من خلال مشاركتها في أولمبياد باريس، كلّ العُقد الأيديولوجية لعالمنا الحديث، وعرّت الأزمة الفكرية العميقة التي تعيشها المجتمعات الغربية اليوم. وقد وجد السياسيون والكتّاب وصنّاع الرأي الغربيّون في الألعاب الأولمبية "الفترينة" الأمثل للسجال على خلفيتها بشأن نظرية الجندر، بالنظر إلى التغطية الإعلامية التي يحظى بها الحدث الرياضي الأبرز في العالم.

وقد أظهر الجدل الأخير حول نزال إيمان خليف مع الملاكِمة الإيطالية أنجيلا كاريني البون الشاسع بين عالمين يبدوان، كلّ يوم، أكثر تباعداً بعضهما عن بعض، ليس فقط في رؤيتهما لبديهياتٍ مثل ماهية المرأة والرجل، ولكن أيضا في مقاربة مفهوم الرياضة الذي برع - للمفارقة - الإغريق في التنظير لقيَمها، ليجد الغرب نفسه اليوم أبعد ما يكون عن روحيتها.

وهكذا قَدّم مشهد ركوع الملاكمة الإيطالية وإجهاشها بالبكاء الاستعراضي وسط الحلبة بعد انسحابها من النزال أمام خليف ـ بعد أقلّ من دقيقة واحدة من بدء المواجهة ـ الصورةَ الأكثر تعبيراً عن هزيمة الإنسان الغربي المُعاصر الذي استسلم لحسابات "الشو"، بدل تقديم التضحيات وخوض معاركه باستبسال، والقتال حتى الرمق الأخير لتحقيق النصر أو الانهزام بكرامة.

وكان النزال بين الملاكمتين قد سبقه لغط واسع في وسائل الإعلام الإيطالية حازت معه الملاكمة الإيطالية شهرةً واسعة، حتى قبل تقديم أيّ انجاز رياضي لبلدها، وحصل ذلك بفضل "الجندر"! وللمزيد من الاستثمار في الشهرة المجّانية بدل القتال داخل الحلبة، يعرف كلُّ خبراء "الشو" أنّ تنفيذ حركةِ التهاوي على الركبتين، مرفقةً برفع العينين إلى السماء مع مصاحبة ذلك بانتحاب شديد، يمكن أن يصنع "لقطة ضحية" مثالية من شأنها كسب تعاطُف الرأي العام، ويضع الملاكمة المنسحبة بهذا الشكل في خانة الامتياز ضمن الحساسية الغربية الحديثة التي نظّر لها الكاتب الأميركي ـ الأسترالي روبرت هيوز في كتابه الأيقوني "ثقافة التباكي" الصادر قبل أكثر من ثلاثين سنة، معلناً فيه أنّ "الحساسية الجديدة تقضي بأن يكون أبطالنا هم الضحايا".

مشهد تاريخي يختصر معاني السقوط الحضاري للغرب

وقد وقف هيوز، في مؤلّفه الشهير، على أهمّ التحوّلات الفكرية والثقافية التي جعلت الإنسان الغربي يجنح ـ بحسابات براغماتية ـ إلى لعب دور الضحية والتموقع دوماً في هذه الخانة للتكسّب منها، بدل السعي المكلِّف لتحقيق البطولة: "مثلما كان أسلافنا في القرن الخامس عشر مهووسين بخلق القدّيسين وأسلافنا في القرن التاسع عشر مهووسين بإنتاج الأبطال (بداية من كريستوفر كولومبوس وصولاً إلى جورج واشنطن)، بات يسكننا نحن هوس التنقيب والاحتفاء بالضحايا، وإذا لزم الأمر أيضاً، صُنعهم". والحقيقة أنّ وصول هذه الحسابات إلى عالم الرياضة ـ آخر معاقل البطولة في العالم الغربي ـ يُنبئ بـ"هزيمة الغرب" الوشيكة بتعبير المؤرّخ الفرنسي إيمانويل تود.

وحدث أن وجدت الملاكِمة الجزائرية إيمان خليف فجأةً نفسها طرفاً في مشهد تاريخي في أولمبياد باريس يختصر معاني السقوط الحضاري لغرب لم يعُد يخجل من خيانة قيمه العريقة "لمجرّد الظفر بمشاركةٍ في برامج تلفزيون واقع أو الانتهاء بترشيحٍ في قوائم فراتيللي ديتاليا"، هذا ما علّق به متابعون إيطاليون على مواقع التواصل انتقاداً لما اعتبروه استعراضاً مُخزياً لا ينتمي إلى عالم الرياضة من ملاكِمة استسلمت من دون أدنى مقاومة، وعلاوة على ذلك رفضت مصافحة منافستها، إمعاناً في دور الضحية، على اعتبار أنّها لن تصافح "رجُلاً" ضرَبها: "هذا ظلم... هذا ظلم!"، هذا ما قالته لمدرّبها وهي تنوح بمرارة وتطوّح برأسها ذات اليمين وذات الشمال، قبل أن تتوجّه إلى الكاميرات وتجثو على ركبتيها كأيّ ممثّلة من الدرجة العاشرة، ويتمّ بعدها إعلان انسحابها. كلُّ هذا بالرغم من أنّ منافِستها تعرّضت لعدّة هزائم في تاريخها الرياضي على يد ملاكمات سيّدات مثلها، ما يدلّ أنّ مسار تطوُّرها هو مسار رياضية حقّقت نجاحاتها من خلال التدريب المنضبط كأيّ رياضي محترف هدفه الأوّل هو تحقيق البطولات، لا التهريج وسط الحلبة.

وحدث أن وجدت إيمان خليف نفسها عالقةً في مشهد قبيح من مشاهد سقوط القيم الغربية، وما سبقه من لغط بدأ قبل سنوات قليلة (في الغرب وحده) حول تعريف المرأة. وإذ يرى التقدّميون أنّ المرأة هي كلُّ شيء يعتبر نفسه امرأة، حتى لو كان رَجُلا أو طاولة، يرى المحافظون أنّ المرأة هي الأنثى البيضاء المنتمية حصراً إلى العرق القوقازي، وعدا عن ذلك فنحن أمام عيوبٍ في التصنيع (لها تفسيرات تطوّرية داروينية) قد تصل مع اشتداد قتامة لون الأنثى واختلاف تكوين عظام جمجمتها حدَّ نفي صفة البشرية عنها، دع عنك تصنيفها رجُلا أو امرأة.

حساسية جديدة تقضي بأن يكون "أبطالنا هُم الضحايا"

وفي الوقت الذي دافع فيه اليسار عن حقّ إيمان في أن تلاكم كـ"متحوّلة جنسياً" في فئة النساء، يُنكر اليمين عليها المشاركة في الأولمبياد كامرأة بزعم أنّها "رجُل". وبين هذا وذاك، لا أحد يريد أن يسمع حقيقة أنّ إيمان ليست لا رجُلاً ولا متحوّلة، بل ببساطة امرأة ذكية اختارت طريقها في الرياضة بما يتناسب مع موهبتها الطبيعية وتكوينها البدني، وهو ما أهّلها لأن تدخل قائمة الأبطال الأولمبيّين الذين يمثّلون، شئنا أم أبينا، النخبة الجينية للبشر في تخصّصاتهم (وهذه هي روح الرياضة الاحترافية). أمّا المطالبة بالمساواة في الجينات بين الرياضيّين لضمان "نِزالات متكافئة" على حد تعبير رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ـ التي واست بهذه العبارة رياضيّتها المستسلمة بُعيد تلقّي لكمتين على وجهها في نزال استغرق 46 ثانية - فيُشبه المطالبة بتحديد سقف طول معيّن للاعبي كرة السلّة في جميع الفرق الرياضية لضمان "مقابلات متكافئة"!

وإن لم يكن من المستغرب أن يُنكر اليمين العنصري على أيّ شخص من الجنوب الحقّ في أن يتفوّق عليه وأن يوجّه له في منتصف وجهه لكمةً مؤلمة ضمن رياضة أولمبية يتدرّب فيها الرياضي أساساً على تلقّي اللكمات، فإنّ موقف اليسار من الدفاع عن إيمان، على اعتبار أنّها شخص "يُعرّف نفسه كامرأة"، ليس أقلّ عنصرية؛ ذلك أنّ إيمان لا تعرّف عن نفسها كامرأة بقرار شخصي منها (وهذا هو روح نظرية الجندر)، ولكن لأنّها وُلدت كأنثى، وهي تخضع لهذا التعريف بمقتضى علم وظائف أعضاء الإنسان، والذي تتنوّع تفاصيله من إنسان إلى آخر بحسب إرادة الخالق: الله (وليس طبيب التجميل). أمّا ما قامت به إيمان بعيداً عن محدِّدات الفيزيولوجيا، في ما يدخل ضمن إرادتها الحرّة، فهو قرارها احتراف الملاكمة والدفاع عن عَلَم بلدها، ليتبعه تشجيع أسرتها ومجتمعها القروي، كما تذكر هي في تصريحاتها لوسائل الإعلام ويذكر والدها بفخر، لتحظى بعدها بدعم شعبي؛ حيث غدت إيمان بطلةً محبوبة ينتظر الجميع في الجزائر إنجازاتها ويُهلّل لكلّ انتصاراتها.

هذا الملمح البارز في مسيرة إيمان خليف، والمرتبط أساساً بديناميكيات تفاعُل المرأة العربية مع مجتمعها وتفاعُل المجتمع العربي الإيجابي مع المرأة الناجحة، لا يتوافق مع خطابات الأيديولوجية التقدّمية، ويُحرج أطروحات الضحية التي يتغذّى عليها، وحيث إنّ الجناح التقدّمي الغربي لا يروّج لنجاح أيّ امرأة عربية أو امرأة قادمة من دول الجنوب عامّة إن كانت تتحرّك خارج أطره الأيديولوجية المعروفة. ذلك أنّ المجتمعات العربية تُعرَّف ضمن أطروحات اليسار على أنّها جحيم "بطريركي" لا تنجح فيه سوى النساء المتمرّدات على بيئتهن الوطنية والمتبنّيات لخطاب الجندر والنسوية المتطرّفة بالضرورة. لذلك كان من الطبيعي أن تأتي كلُّ الأحاديث بشأن إيمان مهوّنةً من دور مجتمعها في صنع نجاحها، ومعتّمة على ثقافتها الأم التي لطالما احتفت بالمرأة بصدق وعفوية بعيداً عن أجندات النسوية النيوليبرالية.

دفع ذلك بعضَ المدافعين اليساريّين عن إيمان في إيطاليا للتخمين أنّها "تعاني بصمت" بعد أن انتشر خبر عدم قانونية التحوّل الجنسي أساساً في الجزائر، وجعلهم يقومون بتبنّي "قضيتها" في إطار فهمهم القاصر لوعي النساء العربيات، معتبرين أنّ إيمان تنتمي إلى مجتمعهم الأيديولوجي "المظلوم في كلّ زمان ومكان"، متجاهلين أنّ المعنية بالأمر اختارت بإرادتها أن تُعبّر عن نفسها من خلال انتمائها الوطني حصراً، بوصفها رياضية ترى نفسها أوّلاً وأخيراً ابنة شعبٍ يُحبّها ويُقدّر مسارها وتضحياتها (وهذه هي روح المشاركة في الألعاب الأولمبية منذ زمن الإغريق) بعيداً عن "لعبة الضحية" وكلّ الجعجعة الأيديولوجية الدائرة حول "الجندر"؛ وهي الأيديولوجيا نفسها التي تنبّأ المؤرّخ الفرنسي إيمانويل تود في آخر إصداراته (كانون الثاني/ يناير 2024) بأنّها هي ما سيكتب نهاية الغرب الحضارية.

من جهة أُخرى، لم يخلُ الجدل في إيطاليا بشأن إيمان خليف من آراء متوازنة ورصينة؛ حيث تساءل الفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو عن "التعنّت الأيديولوجي الذي يريد أن يجعل من إيمان خليف متحوّلةً جنسياً في حين أنّها وُلدت أنثى"، ويواصل فوزارو في فيديو نشره على قناته على يوتيوب أنّ "إيمان خليف امرأة حتى إن كانت معدّلات التستوستيرون عندها عالية، بل حتى إن وُجدت في خريطتها الجينية آثار من كروموزم ذكري، فهي امرأة بحسب التعريف الأرسطي الكلاسيكي للمرأة". يقول الفيلسوف الإيطالي، الذي يُعدّ من أشدّ المناوئين لأيديولوجيا الجندر في إيطاليا وأبرز منتقدي الخطابات النسوية الراديكالية، إنّه كان يناصر بحسّه الوطني الملاكمة الإيطالية، لكنّ هذا لا يجعله يوافق على تبرير انسحابها بادّعاء أنّ منافستها كانت رجُلاً.

في السياق ذاته، خصَّص الروائي الشهير فولفيو أبّاتي مقالاً قاسياً لمواطنته على صحيفة "لونيتا"، نُشر في الثالث من آب/ أغسطس الجاري، وصف فيه الملاكِمة الإيطالية بـ"الفاشية المتباكية التي تلعب دور الضحية"، مؤكّداً أنّ تمثيليتها على الحلبة أمام إيمان لم تكُن سوى ميلودراما قميئة مستلّة من "أسفل سافلي ثقافة الووك".

وشنّ أبّاتي هجوماً كاسحاً على جميع من تطاولوا على الملاكمة الجزائرية أو حاولوا الانتقاص من أنوثتها، مشيداً بروحها الرياضية، وهي التي حاولت بعد انتهاء النزال مواساة الإيطالية "الصغيرة جدّاً بأخلاقها"، يقول أبّاتي، الذي ختم مقاله وهو يهتف لوطن إيمان بحماسة ولجزائرها التي تحب: "والآن لا يسعنا سوى أن نقف ونرفع قبضتنا للسماء، لنهتف بأعلى صوتنا: Forza Algeria!"، يكتب أبّاتي: "إلى الأمام يا جزائر"!


* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون