ما يحدث، ما تراه، وما يظهر أمامك على الشاشة من سينما الواقع ليسَ مشهد مجموعة من اليهود الذين يُساقون عراةً ثمَّ يُقتلون ببنادق النازية في فيلمٍ لمخرج بولندي، عن موسيقي يهودي ناجح وشهير وعبقري، وقد استطاع أن يتجاوز اشتراط زمنه وواقعه، وأن يظهر كيهودي متفوِّق تحت أيِّ ظرف وعلى أي مجموعة أُخرى من البشر.
ما يحدث، ما تراه، ما يظهر أمامك على الشاشة؛ هو الواقع نفسه لقتلةٍ إسرائيليّين مع سلاحهم وآلياتهم، يَقتلون عدداً من الفلسطينيين العُزَّل الذين لجأوا أساساً إلى إحدى مدارس "الأونروا". فلسطينيون مدنيون لديهم عائلات وتاريخ ومعرفة، وقبل ذلك، لديهم أرض، وهم يُقتلون فوق أرضهم. الصهاينة هنا، دخلاء على المشهد. إنَّهم عصابة قتلة، سلوكهم سلوك العصابة، ومزاعمهم مزاعم العصابة، ومصيرهم مصير العصابة. ولم تنفع بيانات التضامن الغربية مع العصابة في أن تظهر على غير طبيعتها.
الصهاينة هنا، ليسوا يهوداً داخل الـ"غيتو"؛ بل نراهم على أسوار "غيتو" شيَّدوه بأنفسهم، وقد أحاطوا مستوطناتهم بجدار فصل عنصري، يحول بينهم وبين الآخرين. الصهاينة هنا، في سينما الواقع قد أعادوا اليهود إلى الحيّ اليهودي، إلى الـ"غيتو"، ومن ثمَّ صعدوا إلى أسواره، وبدأوا رمي الآخرين بالعنف والسموم والوحشية والقذارة. المشهد في فلسطين، عكس كل السينما التي تصوّر اليهودي المظلوم، اليهودي المعزول، اليهودي العبقري، اليهودي الإنساني والمتعاطف.
كلّ صور السينما للمحرقة النازية جاء الصهاينةُ بمثلها
حتى إنَّ الصهاينة في واقع فلسطين لم يتركوا لصورة اليهودي في السينما العالمية شيئاً كي يستدرُّوا التعاطف من خلاله، فكلّ الصورة السينمائية التي صنعوها من أجل الاستثمار الدائم في المحرقة النازية؛ جاء الصهاينة بمثلها. ولو أن الكاميرات التي تنقل الواقع كاميرات عوراء.
إذاً، كيان الاحتلال، بذاته "غيتو" واقعي. مع فارق مؤكّد، أنَّ الـ"غيتو" الذي صنعه الصهاينة لليهود، هو غيتو مُصطنع، بناءٌ مسبق، بناءٌ معدٌّ للتفكيك، بناءٌ هشٌّ بأساسٍ زائف. وربما المفارقة المؤكّدة التي تمنع عن المرء مقارنة سلوك المستوطنين الصهاينة بسلوك مَن يقطن حيّاً يهودياً، هو أنهم أساساً لا يملكون البيت، وهم معتدون بمجرّد وجودهم. والصهاينة بهذا المعنى، ليسوا زعراناً في حيٍّ مجاور. وفيما يتعلّق بفلسطين، لم يبقَ لمن يستخدم الكلمات للتعبير، سِوى أن يكون حسَّاساً للمفردات التي يستخدمها. الصهاينة ليسوا زعراناً في حيّ يهودي، لأنهم من خارج النسيج؛ إنَّهم محتلون وقتلة.
على الجانب المُشرِق للحكاية، فما تراه، ما يظهر أمامك على الشاشة ليس فيلماً إيرانياً من تلك الأفلام التي تُخرج من الطفولة أعذب ما فيها، وأكثر ما فيها بلاغة وعُمقاً وبراءة، وقدرة على التعبير العاطفي. وسينما الواقع الفلسطيني، أشرقت بما تقصرُ الكلمات عن توصيفه؛ لأطفالٍ بارعين في التعبير عمّا ألمَّ بهم، عمَّا نسف عالمهم، عمَّا قتل أهلهم، عمَّا أودى بطفولتهم. كلها ممكناتٌ لقولٍ يبقى المرء قاصراً عن قوله بالتحديد، كلّها احتمالاتٌ لتعبيرٍ فادح عن نسف وجود الإنسان، ومحو أثره.
الصهاينة مستمرّون في الإبادة، لا يوجد ما يمنعهم بالمعنى الحقيقي. الكلمات مهما كانت بارعة ليست إلا مجازاً. والتهديد الذي يحيق بـ "إسرائيل" تهديد فلسفي، يأتي من طبيعتها ذاتها، فالطبيعة العدوانية تُدمِّر ذاتها ما إن تنتهي من تدمير الآخرين -هتلر أمر بهدم برلين في نهاية الحرب - والاستباحة تنقلبُ إلى الداخل. لكن في اللحظات الثقيلة التي نعبر بها، كل كلام عن المستقبل مجرّد عزاء، خاصَّة أمام سينما الواقع التي نراها، السينما المتوحّشة التي منعها انزياح جغرافي بسيط عن أن يكون الاستديو في الإسكندرية أو حيفا أو بيروت أو اللاذقية، عوضَ ذلك غزة هي الاستديو المعاصر للمحرقة.
* روائي من سورية