في مدينة نانسي، شرقي فرنسا، انعقد يومَي الخميس والجمعة الماضيَين مؤتمرٌ دولي حول "الأبعاد الثقافية للترجمة القانونية"، بتنظيم مشترَك بين "معهد الدوحة للدراسات العليا" وقسم اللغة العربية في "جامعة لوران- نانسي" و"مركز الأبحاث متعدّدة الاختصاصات في علم الترجمة القانوني" CERIJE في باريس.
وقد تناول قرابة ثلاثين محاضرًا، قدموا من عدّة بلدان عربية وأوروبية، قضيّة نقل الحمولات الاجتماعية والثقافية من لغة إلى أُخرى، ومن منظومة قانونيّة إلى غيرها. وبعيدًا عن دعوى استحالة الترجمة intraduisibilité التي باتت بمثابة "شمّاعة" يرفعها الكثيرون من دون حجّة أو تكاسلاً، تصدّى المشاركون إلى تعليل عوامل هذه "الاستحالة" وتفكيك مظاهرها اللغوية والحضارية، ضمن إطار نظري يعتمد ثلاث مراحل؛ ففي الطور الأوّل، طور الدرس الدلائلي sémasiologique، يعتني المترجم بالمدلولات الأصلية والحافّة حصرًا للمعاني المختلفة التي يحيل عليها المُصطلح. وفي المرحلة الثانية، يتدخّل علم التصوّرات onomasiologique الذي يعنى باختيار المُصطلح الملائم للتعبير عن مدارات المفهوم الذهني الذي يُراد إبلاغُه، وأخيرًا، يلجأ إلى القانون المقارَن بما هو نظر في منظومتَي القيم التي تَنتقل منها وإليها المفاهيم والمبادئ، من أجل إدراك نقاط الاختلاف والائتلاف.
شارك في المؤتمر بعض الموظّفين الذين يشغلون مناصب رفيعة في الهيئات الأوروبية ومفوّضيات اللاجئين والإدارات والمنظّمات الدولية، الحكومية منها وغير الحكومية، وركّزت مداخلاتهم على البُعد العملي والبراغماتي للترجمة القانونية؛ فجلُّهم رجال قانون أو حقوقيّون يهتمّون أكثر بتطبيق المواد والبنود، من دون الانشغال بصياغاتها اللفظية أو الاختيارات الاصطلاحية. كما ركّزوا على المنحى الكوني الذي بدأت القوانين الداخلية الخاصّة بكل بلد تسير فيه، وهو منحى التماثل والإذعان إلى نفس النموذج المعياريّ الذي بات أقرب إلى العولمة والشمول.
تحوّلات الحمولات الثقافية أثناء سفر المفاهيم القانونية
وأمّا المُحاضرون الناطقون باللغة الإسبانية، سواء القادمون من إسبانيا أو من بلدان أميركا اللاتينية، فلفتوا الأنظار إلى وجود "لهجات" إسبانيّة متعدّدة، فضلاً عن وجود مؤسّسات خاصّة بكلّ بلد ناطق بهذه اللغة. ومع ذلك، فلا تماثُلَ كلّياً بين النظام القضائي المكسيكي مثلاً ونظيره في إسبانيا. وتصدق ظاهرة المتغيّرات المحلّية لنفس المفهوم تمامًا على البلدان العربية، حيث تشيع للمبدأ الواحد العديد من الصيغ المصطلحية المتباينة؛ مثل: "قاضٍ" و"حاكم" و"مستشار" التي تُطلَق كلُّها على من يبتّ في القضايا، ومثل "مسطرة" و"مجلّة" و"قانون" وحتى "كود" التي تنصرف جميعها إلى مَدلول "code"، بما هي مجموع القوانين المحفوظة ضمن كتاب رسمي.
وحضرت في أعمال المؤتمر إشكاليات المعاجم المختصّة والمزدوجة والترجمة الآلية ولا سيما عبر محرك ديب-ل DeepL، وكذلك معضلات التأثيل واقتراض اللغات بعضها من بعض، والتوظيف السلطوي للترجمة وللمفردات، وكأنّها مسائل ثابتة لا مفرّ اليوم من طرحها في أيّ فرع من فروع الترجمة والتحاوُر اللغوي، إلّا أنّ أهميتها أكبر في المجال القضائي؛ لأنه قد يترتّب عنها عددٌ من الاستتباعات المالية والقانونية.
أشارت مداخلات إلى الدور الاستعماري في اضطراب المفاهيم
وهكذا، تتالت المداخلات، طيلةَ يومين، وجرى خلالهما تحليل عشرات المفاهيم لبيان خصوصيّة الحمولات الثقافيّة وتحوّلاتها أثناء سفر المفاهيم القانونية، والتي لها عواقب وتداعيات لا توجد مثلًا في نقل الصور الشعرية من لغة إلى أُخرى. ولذلك، أجرى الباحثون تحليلات مدقّقة لعشرات المصطلحات التي تنتمي إلى كلّ فروع القانون من أجل تحديد المظهر الثقافي المعجمي الذي يميّز كلّ مصطلح، متجاوزِين آلية استعراض الأمثلة، وصولًا إلى اجتراح إطار نظريّ أعمق، بات يُعرف اليوم بـ"علم الترجمة القانونية"، والذي طوّرته الباحثة الفرنسية سيلفي مونجون- دي كادون، وهو إطارٌ يسمح بتحليل كلّ معضلات التفاعُل بين المنظومات القانونية وتعبيراتها الاصطلاحية، فضلًا عن استقصاء التأثيرات الأيديولوجية والسياسية التي تتدخّل في اختيار المصطلحات والكلمات.
هذا، وقد حظيت المفاهيم الإسلامية، سواء تلك النابعة من فروع الفقه التقليدي أو تلك المنحدرة من القوانين العربية الراهنة، باهتمام كبير؛ إذ حلّل المشاركون صعوبات نقلها إلى اللغات الأوروبية، وشرحوا مظاهر ضياع المعنى وتشظّي مكوّناته الاصطلاحية، ممّا دفع المُترجمين إلى الاقتراض الصوتي؛ في مثل حالة "كفالة" الذي نُقل حرفيًّا إلى kafala، وهو عين ما حصل مع مفردات أُخرى مثل: "صداق" وطلاق" و"خُلع" وغيرها كثير.
وهكذا، كان هذا المؤتمر "مأدبة" مَفاهيم ترجمية دقيقة؛ مثل "الفراغ الاصطلاحي" و"الاستحالة"، و"التأويل"، وهي حقول بِكر تتطلب مزيدًا من البحث والاستقصاء، خصوصًا أنّ النصوص القانونية العربية باتت اليوم منخرطةً ضمن تبادُل دولي نشط للغاية. ولذلك، بات من الضروري التوقّف أمام عجلة التاريخ، تاريخ المؤسّسات القضائية الداخلية والدولية التي تتحكّم في مفاصل محاكمنا وإداراتنا، لتأمُّل خطّ المسارات الاصطلاحية التي تعجّ بها ملايين الوثائق، حيث يمكن لعواقب خطرة أن تتخفّى في ثنايا ترجمة خاطئة أو اختيار غير موفّق أو إهمال للظروف الثقافية الثاوية وراء إنشاء المصطلحات ترجمةً وتوليدًا، والتي تعنى بترجمة القانون وبقوانين الترجمة في العالم العربي.
وقد أشارت بعض المداخلات إلى الدور الاستعماري في اضطراب المفاهيم؛ إذ كانت جلُّ المجلّات القانونية العربية قد حُرّرت إبّان حقبة الاحتلال الفرنسي أو البريطاني بلغات المستعمر، ثُمّ تُرجمت وكُيّفت بعد ذلك مع اللغة العربية، ومع بعض الأعراف والقواعد المحلّية. إلّا أنّ التصوُّرات الفرنسية منحدرٌ أيضًا من الإرث الروماني، والآخر متطابق مع مقاصد الشريعة، حتى في بعض التفاصيل، ما يجعل التمييز بين طبقات المبدأ القانوني ومكوّناته الدلالية والقيمية والتصوريّة أمرًا في غاية العسر، وهو ما يتجلّى أيضًا في التطابق والتباين الذي يُلمس أثناء النقل.
ومن الأكيد أنّ هذا الحقل الجديد يتطلّب حفرًا أعمق في الظروف التي أُنشئت فيها القوانين العربية من أجل حصر العوامل التي أثّرت في صياغتها؛ ومنها تكوين رجال القانون العرب؛ مثل: عبد الرزاق السنهوري، وقبله محمد نجاري بك، وغيرهما ممّن كانت لهم اليد الطولى في إغناء الرصيد المعجمي القانوني عبر النقل والتعريب والدمج، مع قناعة كانت سائدةً عندهم بأنّ جلّ القوانين الفرنسية التي كان يُتبجّح بعدلها ودقّتها آنذاك لا تباين البتّة مقاصد الشريعة ولا تنافيها.
وتُعدّ مشاركة "معهد الدوحة للدراسات العليا"، تصوُّرًا لمحور المؤتمر ومناقشةً لما ورد في المداخلات، علامةً أُخرى على أنّ الباحثين العرب يمتلكون، مثل نظرائهم الأوروبيّين، كلّ الشبكات التحليلية الحديثة ويطبّقونها بنفس الكفاءة على مدوّنات القانون العربي، وهو ما من شأنه أن يدعم تلاقُح نظريات الترجمة بفتح آفاق جديدة لها، تنبع من مدوَّناتٍ وتصوّرات ربّما لا تخطر على بال المنظّرين الأوروبيّين الذين لم ترتبط لغة القانون لديهم بتأثير المدوّنة الفقهية ومصطلحاتها ذوات المراجع المقدَّسة أو القَبَلية.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس