يبعث الكاتب الأردني يعقوب العودات، الملقّب بـ"البدوي الملثم"، (1909 - 1971) رسالة إلى الأديب والمربّي الفلسطيني خليل السكاكيني (1878 - 1953) من مقرّ وظيفته بديوان رئاسة الوزراء في الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير عام 1941، يمزج فيها بين الشخصي والشأن العام.
اختار صاحب كتاب "إسلام نابليون" (1937) صيغتين لمخاطبته؛ الأولى ثبّتها على المغلف الموسوم بطابع بريدي وأختامٍ رسمية: "يا صاحب السعادة الأستاذ الكبير خليل بك السكاكيني أمتع الله به دولة الأدب العربي"، والثانية إخوانية افتتح بها رسالته" "سيدي العم أبا سري لا عدمكم الأدب نصيراً".
تتصدّر الحرب العالمية الثانية محور اهتمامه لما سبّبته من "شلّ حركة الأدب وتهديم بروج إنتاجه وتقطيع حبال المراسلة التي يتجاذبها الإخوان الموحدو الأمزجة والمشاعر والقريبو النزعات والأهداف"، موضّحاً أنه تلقّى رسالة من خاله الطبيب حنا القسوس في حيفا تشير إلى استفسار السكاكيني عنه، فأرسل يردّ بالوفاء والمحبة.
ألّف أكثر من عشرين كتاباً في التراجم والسير والتاريخ الثقافي
ويختم البدوي الملثم بتوقّفه منذ أيام عند القصيدة التي نظمها العقاد برسم أبي العلاء المعرّي وابنه الذي لم يولد، مرفقاً نصها كاملاً، وفي مطلعها "يا أبي طال في الظلام قعودي/ فمتى أنت مخرجي للوجود/ طال شوقي إليه فاحلل قيودي".
انشغل العودات المولود في مدينة الكرك بما يحيط به من أفكار وأحداث وشخصيات بذل حياته كلّها للتأمّل فيها والكتابة عنها، والنظر إلى النصوص الأدبية كوثائق تعكس السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عاشها أصحابها، وهو في بحثه العلمي الصارم والدقيق يعتمد أسساً ثلاثة: المراجع التاريخية بالعربية والإنكليزية (التي أتقنها)، وحواراته الدائمة مع عدد من المثقفين العرب الذين صاحبهم، والغربيين أيضاً، ورحلاته حيث يطوف بعدّة السؤال والاستقصاء.
ألّف صاحب كتاب "القافلة المنسية" (1940) أكثر من عشرين كتاباً في التراجم والسير والنقد والتاريخ الثقافي، مؤمناً بمشروعٍ لم يتمّه بـ"التعريف بالأردن والكشف عن أمجاد الأمّة العربية تالداً وطارفاً"، بحسب مقابلة صحافية سابقة معه، إذ طبع معظم مؤلّفاته على نفقته الشخصية، وهو الذي عمل موظفاً قرابة نصف قرن، متنقلاً بين التدريس ثم سكرتيراً في رئاسة الوزراء والمجلس التشريعي يكتب خطابات ومخاطبات رسمية، قبل أن ينتقل للعمل في القدس التي تركها قسراً عام 1948.
عمِل البدوي الملثم في قلم الترجمة التابع للسكرتارية العامة لحكومة فلسطين، حيث ارتبط هناك بزوجته نجلاء ابنة الصحافي الفلسطيني بولس شحادة (1882 – 1943)، ليعود منها إلى الأردن لعامين، منطلقاً في رحلته البحثية المضنية إلى المكسيك وبلدان أميركولاتينية أخرى، ليضع كتابه "الناطقون بالضاد في أميركا الجنوبية" الذي لم يكتف فيه برصد كتابات الأعلام من الكتّاب والسياسيين وسيرهم فحسب، إنما درس هجرات العرب إلى تلك البقاع القصيّة.
يحلّل الكتاب ظاهرة هروب عشرات آلاف الشبان من بلاد الشام، بالعودة إلى محاضرة ألقاها الشيخ حبيب مسعود في طرابلس عام 1948، ويحيل أسبابها إلى التجنيد الإجباري في العهد العثماني والمجاعة في لبنان وسورية وفلسطين، والإرساليات الأجنبية التي لعبت دورها في التعريف ببلاد الغرب، ومشاركات التجّار الشوام في المعارض التي كانت تقام في الولايات المتحدة لعرض منتجاتهم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولعُ صاحب كتاب "الغواني في شعر إبراهيم طوقان" (1957) بكتابة السيرة يأخذ مستويات عديدة، تتصدرّها رغبة بتثبيت هوية أردنية شامية عربية لشخصيات أراد إنصافها وتثبيت حقّها من الريادة والتأسيس لم يُلتفت إليه، ويعكس أيضاً اشتباكاً مع اللحظة الراهنة عبر التأكيد على حضورهم الفاعل والمؤثّر فيها، إلى جانب غواية شدّته إلى نسج حياتهم على الورق والوصول إلى خلاصات فكرهم وآرائهم، وليس عجيباً أن يُستشهد فيها كلما تتبّع باحث خطى واحد من الأعلام الذين تناولهم.
طبع صورة راسخة حول عرار لم يفلت أحد منها حتى اليوم
يحضر هنا كتابه "عرار: شاعر الأردن" الذي طبع من خلاله صورة راسخة حول مصطفى وهبي التل (1899 – 1949) إلى اليوم، ولن يفلت أحد من تخيّل تلك الأوصاف التي أغدقها عليه، منذ أن رآه أول مرة ضيفاً على بيت أهله في الكرك عام 1922، مشدوداً إلى نظراته الحادة وطوله الفارع وشعره الفاحم المرسل على كتفيه تأسياً بفلاسفة الإغريق، ومتنبّهاً بعدها إلى شاعر ينشد وطناً مثالاً لا يراه في الواقع الذي يتخفّف منه نحو لذة مطلقة لعلّها ترشده إلى المعنى والطريق.
برَع البدوي الملثم في تخليد صاحب ديوان "عشيات وادي اليابس" وخلق أسطورته التي لا تزال عالقة في الذاكرة الشعبية طبقاً لصورته التي رسمها، وتضمين السيرة التي كتبها عنه بعشرات الأبيات التي لم ترد في الديوان بسبب هجائه فيها للحكم، ومنها بعض المعارضات الشعرية بينه وبين الأمير عبد الله بن حسين.
لكن كتبه الموسوعية تبقى الأهم بين أعماله، ومنها "من أعلام الفكر والأدب في فلسطين"، وكان أكثرها نضجاً في مجال التراجم، وتبرز سعة اطلاعه على التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية وتأثيثها للثقافة الفلسطينية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، متكئاً على كل ما أتيح له من مصادر مكتوبة، وباحثاً كعادته على طريقته في التطواف في بلدان اللجوء وجمع الشهادات والمعلومات على لسان أصحابها أو من جايلهم، أو مراسلتهم للحصول عليها.
تمنح مؤلّفاته جميعها تصوّرات معمّقة ومطوّلة ووافية عن مشهد الحياة الثقافية حول نهر الأردن، بشكل أساسي، مسكوناً بتلك الصلة التي جمعت بلدين وذاكرتين بما لم يتصل غيرهما به، إلا أن كتاباً واحداً ألّفه على هدي الكتّاب في تلك المرحلة يكشف جانباً من شخصيته وآرائه وقراءاته يحمل عنوان "رسائل إلى ولدي خالد".
يخاطب ابنه في إحدى الرسائل، قائلاً: "يعزو أكثر الناس سوء حظهم إلى قسوة الدهر وتجهّم الأيام في وجوههم، ولكني أخالفهم فيما ذهبوا إليه، إذ لو أنهم جدّوا في أعمالهم، لحققوا الغاية وركزوا الراية. ولنأخذ الفراشة والنملة مثلاً لنجد الفرق بينهما واسعاً، فالأولى جهدها مشتت، والثانية جهدها مركز! والأديب الأصيل عبد الله بن المقفع (724 – 759) نصحنا بقوله: إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالزوغان منها، فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها. وإن الصبر عليها يخففها عنك، والضجر منها يراكمها عليك".
عوداً على لقبه "البدوي الملثم"، الذي اختاره لوسم مؤلّفاته، وفيه إشارة إلى ارتداء اللثام في الثقافة البدوية العربية عند الإحساس بالبرد وربما آنَس دفئاً بالكتابة والأدب، وكذلك حين يتقصّى البدوي هدفاً غير معلوم في تجواله وتنقّله وقد تكون دلالة على بحثه وتنقيبه اللذين داما أكثر من أربعة عقود، وفيها أيضاً تمثّلاً لملثمين ظهروا في التاريخ وأرادوا تغيير الواقع بالقوة، ولعل كتابة السيرة كانت سبيل العودات في إحداث ذلك التغيير.