إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.
قد تُغرينا هذه اللحظة المشحونة وجدانياً بالانجراف إلى خُطب عاطفية، يشعر بعدها المثقّف بأنه قد أدّى واجبه على أكمل وجه حيال القضية الفلسطينية، خصوصاً أمام المواقف المُتخاذلة التي أصبحت للأسف سمة عامة لمثقّفي العالَم العربي، الذين يعتقدون أنهم قد فهموا لعبة "العالمية"، والثمن الذي يتعيّن دفعه من أجل الدخول إلى "الدائرة المباركة" للساحة الثقافية الغربية.
الصمت أو المواقف الباردة التي اتّخذها الكثيرون إزاء حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، لا تُعبّر عن هزيمة داخلية ونزيف كرامةٍ مُزمن يعيشه هؤلاء فحسب، لكنّ أسوأ ما في هذه الحالة أنها قد تُصبح مُعدية وقابلة للتمرير للأجيال القادمة من الكُتّاب الشباب الذين قد ظهر على البعض منهم بالفعل علامات الاقتداء بالأسماء "اللامعة"، أو من يُعتقد أنهم فهموا أصول اللعبة قبلهم.
ديمقراطية غربية خادعة تستغلّ كتّاباً ومثقفين "ملوّنين"
من هنا يأتي أولاً واجبنا بعدم الاكتفاء بالحدّ الأدنى من تسجيل المواقف، وهي عملية مهمّة، وإنما الأهم من ذلك هو التأسيس لتيّار يُقاوم ثقافة الانكسار التي يُحاول المثقّف المُتخاذل جعلها سمة الإنسان العربي في هذا العصر. الوقوف أمام هذا التوجّه لا بدّ أن يبدأ من خلال خطوات عملية أوّلها عودة الإعلام الثقافي العربي لِلَعب دوره الأساسي بنشر المعرفة بعيداً عن الاستسهال، بل الخوض في مفاهيم أساسية تتعلّق بالتوجّهات والمدارس الفكرية الحديثة في الغرب، والتي من شأنها إسقاط أوهام كبرى عن الساحة الثقافية الغربية، وديناميكيات تكريس الأسماء العربية في داخلها.
"التوكينيزيم" أو استخدام الأقلّيات كأوراق لعب هو مثلاً مصطلح غائب تماماً عن أدبيات الإعلام الثقافي العربي، لدرجة عدم وجود ترجمة عربية معروفة له، هذا بالرغم من أنه مصطلح مُكرّس منذ عقود يعرفه المثقّفون الغربيّون جيداً، ويعني توظيف الكُتّاب والمثقّفين من ذوي الأسماء أو الأشكال "الإكزوتيكية" في المنظومة الثقافية الغربية، للإيحاء بتنوّع زائف يخضع عادة لشروط المنظومة الحاضنة. ومن نافل القول الإشارة إلى أن العملية بأسرها لا تُلقي أي اعتبار حقيقي للقيمة الأدبية للكاتب "الملوّن"، سوى استغلال خلفيته الثقافية للإيهام بديمقراطية خادعة هي نفسها الديمقراطية التي لا تأبه بقتل الفلسطينيين أو محو مدنهم عن بكرة أبيها اليوم.
يجب ألا يتحوّل صوت المثقف إلى طلقة في صدر شعبه
وعليه لا بد أن يُدرك القارئ الشابّ، الطامح في أن يُصبح هو الآخر اسماً عالمياً يوماً ما، أن الكُتّاب العرب الذين يبصقون على ثقافتهم في الغرب من خلال كتابات ومواقف لا تُشبه أصالة شعوبهم، لا يَنظر لهم المثقّف الغربي على أنهم أنداد، بل ببساطة مجرد "توكنز". إدراك الكاتب العربي الشاب أن الأسماء التي تتنكّر لقضايا شعبها، لا يكنّ لها الغربي في نفسه سوى الاحتقار، وإن سُلّطت عليها الأضواء الخادعة، قد يجعله يكتفي بالكتابة لقُرّاء لغته الأم لا للترجمة من أجل الحصول على مجد عالمي زائف. لحظة الوعي الكبيرة هذه وحدها قد تطلق مشروعاً لأدب مقاومة غير متوقّع من شأنه أن يكتب صفحة عظيمة من صفحات الأدب العربي. تأخذنا هذه النقطة إلى إجراء عملي ثان يتعلّق بالترجمة، فمن المهمّ بمكان للمثقّف العربي، اليوم، أن لا يسمح لنفسه أن يتحوّل صوته إلى طلقة في صدر شعبه، والأمر يعني أن لا يقبل الكاتب أو الشاعر العربي سوى عروض ترجمة تخضع لشروطه، عدا عن ذلك فليعتذر عنها إن هو شعَر أن عمله قد يُوَظّف ضدّ ثقافته على نحو لا فكاك منه.
وهو ما يجري للأسف بشكل شبه منهجي في الغرب اليوم، خصوصاً في ظلّ تزايد ظاهرة إرفاق المقدّمات النقدية بالكتب المترجمة، والتي قد يقول فيها المترجِم أو غيره ما يشاء، وهنا يحضرني كتاب "شرق – غرب" لفيديريكو رامبيني ("إيناودي"، 2020) الذي أشار فيه الكاتب الإيطالي إلى نهج يتّبعه المترجمون للآداب الشرقية في أوروبا، وصفه بأنه "شرح النصوص من خلال ليّ عنقها"، وهو أسلوب يعتمده المترجمون عادةً لفرض أيديولوجيتهم على النص الأصلي. أما مواصلة الادّعاء بأن ما نكتبه هو محض أدب ينضح بالجمال آملين في أن تقتصر الترجمة على إظهار الصنعة الفنية للكاتب، فهو كلام لا ينطوي على سذاجة فحسب، وإنما على عدم وعي باللحظة المفصلية التي يعيشها العالم العربي، قد يصل إلى حدّ التواطؤ على ثقافتنا في ظلّ ما نشهده الآن من عودة قوية للاستشراق من الباب الخلفي.
* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الثالث من الملفّ: اضغط هنا