الثقافة السياسية على الإنترنت.. تحوّلات ومزالق عالَم رقمي

13 مارس 2023
من أعمال تاسع جلسات المؤتمر التي عُقدت اليوم
+ الخط -

استقصى خمسة باحثين الأشكال الجديدة للمشاركة السياسية في الوطن العربي عبر فضاء شبكات الإنترنت، وما طرحته هذه المسارح الافتراضية من تحدّيات للثقافة السياسية الكلاسيكية، مثل ما شهدت مزالق عديدة. جاء ذلك في الجلستين التاسعة والعاشرة في اليوم الثالث والختامي من أعمال الدورة التاسعة لـ"مؤتمر العلوم الاجتماعية"، التي اختُتمت اليوم في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، ودارت هذا العام حول ثيمة "الثقافة السياسية" والثقافات السياسية في العالم العربي.

ضمّت الجلسة التاسعة ورقة مشتركة بعنوان "الإنترنت والثقافة السياسية ومفارقة الذاكرة الجمعية"، قدّمتْ مدخلاً لدراسة أثر شبكة الإنترنت في الثقافة السياسية من خلال مفهوم الذاكرة الجمعية. والورقة أعدّها عمرو عثمان الأستاذ في قسم العلوم الإنسانية بـ"جامعة قطر"، ومروة فكري، الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بـ"جامعة القاهرة".

يحدّ الإنترنت من دور الدولة ويزيد الاستقطاب السياسي

فبالانتقال من المقاربات التقليدية عن الثقافة السياسية التي تحصرها في المعرفة والتوجهات والسلوك، إلى المقاربات البنائية والتفسيرية التي تعرّفها من خلال عملية "بناء المعاني"، تظهر الذاكرة الجمعية بوصفها مكوّناً من مكوّنات الثقافة السياسية بما تحمله من معانٍ ورموز وسرديات عن الحياة السياسية. ورأى الباحثان أن المقاربات السلوكية للثقافة السياسية أهملت البُعد التاريخي التحليلي إهمالاً كبيراً، ولهذا السبب جاء الاهتمام بالذاكرة الجمعية نوعاً من ردّ الاعتبار لهذا النوع من التنظير.

وهنا يأتي التحوُّل الذي شهدناه على الإنترنت، بحسب ما توصّلت إليه الورقة من نموذجٍ الأصلُ فيه اختفاءُ الأحداث من الذاكرة بينما الحفاظ عليها هو الاستثناء، إلى نموذجٍ جديدٍ فيه بقاءُ الأحداث هو الأصلُ واختفاؤها أو إخفاؤها هو الاستثناء.

مروة فكري خلال مداخلتها
مروة فكري خلال مداخلتها

وانطلق الباحثان من سؤال حول التداعيات المحتملة للإنترنت في التذكر على الثقافة السياسية في المجتمعات. واستنتجت الورقة، من دراسة حالة ثورة 25 يناير 2011 المصرية، أن تطور الإنترنت قد يحدّ من دور الدولة والنخبة، غير أنه قد يزيد أيضاً من حدة الاستقطاب السياسي في تشكيل الثقافة السياسية، والذاكرة الجمعية والاجتماعية، وإضعاف ثقافة التسامح مع الآخر وفرص تحقيق المصالحة المجتمعية، وهو ما أطلقا عليه "مفارقة الذاكرة الجمعية".


ثقافة المجتمعات الشبكية

وفي الجلسة التاسعة أيضاً، تحدثت بشرى زكاغ، أستاذة سوسيولوجيا التربية بـ"المركز الجهوي لِمِهَن التربية والتكوين" في وجدة بالمغرب، عن ثقافة الجماعات الشبكية وأثرها في الفعل السياسي بالمغرب. وبحثت الورقة الأشكال الجديدة للمشاركة السياسية عبر فضاء الشبكات واستقصائها، حيث يتداخل فيها فاعلون شبكيون موجودون في صلب دينامية الحقل السياسي بالمغرب.

تُقارب الباحثة من منظور النتنوغرافيا (الإثنوغرافيا الافتراضية) بنية الفرصة السياسية التي يتيحها أو يجهضها الحضور في الفضاء الشبكي، بما يتيح أو لا يتيح للفاعلين الشبكيين اغتنام ما توفّره بيئتهم الشبكية من روابط وعقد، للوصول إلى مستويات عليا لصنع القرار السياسي، من حيث انخراط هؤلاء الفاعلين في روابط شبكية من أسفل إلى أعلى، في عملية اتخاذ القرار وصنع الرأي العام، إلى جانب المبادرات من أعلى إلى أسفل للنخب السياسية والمؤسسات، ضمن إعادة تفاوض دينامية على الحدود بين المجتمع والدولة، وذلك على نحو يؤثّر في الفاعلين الرئيسيين المسؤولين عن السياسات العامة.

بشرى زكاغ
بشرى زكاغ تلقي ورقتها

تشير زكاغ هنا إلى أن "النتنوغرافيا" حديثة العهد، وأنها حاولت خلال عشر سنوات البحث عن أطر مفاهيمية جديدة، وفي بعض الحالات، كانت تنفتح على دراسات وأطروحات من خارج العلوم الاجتماعية، ومن ذلك الدراسات اللسانية، لفهم التقاطع والتداخل بين الفضاءين الشبكي والموقعي، مستعينةً بعالم اللسانيات فرديناند دو سوسور بشأن معنى الدلالة اللسانية.

حلّ الرقمي مكان الثقافي كأرضية تضمن للسياسة صلابتها

من جانب آخر، دفعت النتنوغرافيا الباحثة إلى حقل الفيزياء، حيث ستعثر على البلازما التي تمثّل حالة بين مادتين صلبة وسائلة، وهو بالتالي ما يمكن إطلاقه على الفعل الشبكي، حيث يتداخل الافتراضي والواقعي.

جاءت النتائج التي توصلت إليها الورقة لتؤكد أن الحقل السياسي بالمغرب واقع حالياً في منطقة رمادية هجينة، أو البين بين الموقعي والشبكي، الفردي والجماعي، الفائت والراهن، البنية والفعل، الخلافي والاتفاقي، وأن ديناميته آخذة في التأثير والفعل ومعاودة الظهور والتشكل في كلّ لحظة وحين.


تحدّيات رقمية

بدأت الجلسة العاشرة بورقة "تحدّيات الشبكات الاجتماعية الرقمية لنظرية الثقافة السياسية الكلاسيكية" وقدّمها عالم الاجتماع والمترجم المغربي حسن احجيج. وفيها يرى أن "الثقافي" لم يعد هو الُّلحمة التي تضمن للممارسات والتنظيمات والعمليات السياسة صلابتها، كما كانت تعتقد نظرية الثقافة السياسية الكلاسيكية، بل حلّ محلّه "الرقمي" بفعل التطور المذهل للشبكات الاجتماعية الرقمية.

وعليه، ينظر المتحدث إلى تحولات جوهرية في الممارسة السياسية الحالية تستدعي العلوم السياسية والاجتماعية في صيغها التقليدية إلى تجديد النظر في أسسها الإبستمولوجية والمنهجية، من أجل مجاراة تلك التحولات تحت طائلة فقدانها المكانة الرفيعة والثقة الاجتماعية اللتين لطالما تمتّعت بهما منذ عقود.

حسن احجيج مشاركاً في عاشر الجلسات
حسن احجيج مشاركاً في عاشر الجلسات

وسعى احجيج إلى إبراز الأزمة التي تعيشها حالياً السياسية الكلاسيكية، بسبب التحولات العميقة التي مست جميع مكونات الثقافة السياسية بفعل نشأة تكنولوجيا الاتصال الرقمية، ولا سيما شبكات التواصل الاجتماعي الموصولة بالإنترنت.

ذلك أن جميع العناصر السياسية ذات الصلة بالثقافة السياسية (التمثيل الوساطة، الإعلام، الأحزاب... إلخ) تبدو قد تأثرت كثيراً بانبثاق الشبكات الاجتماعية الرقمية، وعرفت تغيرات عميقة أضحت تمثل تحديات حقيقية لنظرية الثقافة السياسية الكلاسيكية.


من التلقّي إلى المشاركة

وفي ذات الحقل، فإن المجال العام الافتراضي العربي ورهان إنهاء الاحتكار السياسي هما المعترك الجديد الذي فحصته أيضاً ورقة عبد القادر ملوك، أستاذ فلسفة التواصل بـ"جامعة ابن زهر" بأغادير المغربية، تحت عنوان "الثقافة السياسية: من التلقّي إلى المشاركة".

عبد القادر ملوك خلال مداخلته
عبد القادر ملوك خلال مداخلته

ويدفع الباحث بأن المجال العام الافتراضي العربي قد سبّب الكثير من الإحراج للأنظمة السياسية، باختراقه قلاعها الحصينة التي ظلت متمنعة عن النقاش العمومي بحكم استفراد هذه الأنظمة بالخبر السياسي، إذ ساهم إسهاماً بيّناً في إحداث وفرة في المشاركة المواطنية ونقل النقاش السياسي بموجبها من فضاءاته التقليدية المعروفة إلى فضاءات جديدة، مكنت من إدماج المزيد من المواطنين في العمل السياسي، وأتاحت لهم فرصة الإدلاء بدلوهم في القضايا التي تدور في فلكه.

ولكن بما أن الثقافة السياسية هي المصطلح الذي غاصت فيه أوراق المؤتمر، فإن ملاحظة عبد القادر ملوك تفيد بأن هذا المجال الجديد لم يقوَ على خلق ثقافة سياسية بديلة بإمكانها أن تشكّل سلطة واعية مضادّة قادرة على المساهمة الفعلية في اللعبة السياسية.

ساهم الافتراضي بفتح نقاشات سياسية كانت تحتكرها الأنظمة

آية ذلك عنده أنه مجالٌ بقي، رغم كثرة المنتسبين إليه، مسكوناً بذوات منفعلة لا فاعلة، مستهلكة لا منتجة. وحتى في اللحظة التي تكون فيها منتجة، فإن إنتاجها يكون محض ردود فعل على أحداث آنية، وليس رؤية محكومة ببُعد نظر يشي بوعي سياسي عميق، يعمل في زمن مسترسل يقوم بين الآن والآن الممتد، إلّا فيما ندر.

وخلص إلى القول إن هذا المجال الافتراضي المستجد لن يتمكن في القريب العاجل من إحداث تغيير ذي شأن في الثقافة السياسية لمرتاديه، والسبب في ذلك أنه مجال يستند إلى الرقمية الحديثة، والإنسان العربي يعيش أشكال هذه الرقمية في انفصال كلّي عن مضامينها، لأن إيقاعها يتجاوز سرعة تمثله.

المساهمون