لا تزال الثقافة العربية تعاني من أحكام نمطية عن ذاتها وأحوالها؛ ففي حين ينعتها بعض أبنائها بثقافة عزلة وانكفاء، تكاد تنحصر وظيفتها في تمجيد ماض تليد، يرى آخرون أنها قد صارت في زمن العولمة تتنكّر لجذورها المؤسِّسة بُغية اللحاق بنموذج "الثقافة الغربية". فهل الثقافة العربية إذًا ثقافة انكفاء وتذكّر أم ثقافة نسيان وتنكّر؟
من منظور دراسات الذاكرة الجمعية، يُعتبر كلٌّ من التذكّر والنسيان في بُعدهما الثقافي ظاهرتين متلازمتين وكأنهما وجهان لعملة واحدة، فالتذكّر، بوصفه عملية انتقائية، يُفضي أيضاً إلى النسيان، ذلك أنه لا يمكننا ـ كأفراد وثقافات ـ تذكّر كل شيء، ففي حين أننا نتذكّر جزءاً محدّداً من ماضينا الثقافي فإننا ننسى في لحظة التذكّر ذاتها أجزاء كثيرة أخرى. بهذا المعنى فإننا نحتاج لإنجاح فعل التذكّر أيضاً إلى مكوّن النسيان، الذي يحجب عنا ما لا نريد تذكّره. لذا فلا حاجة لنا إلى تبجيل أو ذم أحدهما على حساب الآخر، فلا يتأتى التذكّر إلا عبر النسيان، بل ولا يتبدّى النسيان نسياناً إلا بفعل التذكّر.
من هنا لا يمكن وصم الثقافة العربية، على الأقل في تمظهراتها الحالية، بكونها ثقافة جامدة يطغى ماضيها على حاضرها، فاستدعاء الماضي، هو من زاوية نظر علمية، فعل انتقائي لا يتم إلا وفق حاجيات راهنة في زمن الحاضر، كما أن ذاكرة ثقافة ما، لا تقبع في الماضي بل هي مجموع تمثلاتنا الجمعية والثقافية في الزمن الراهن؛ فالذاكرة حاضرة في زمننا الراهن، بل ومعبّرة عنه.
التذكّر، بوصفه عملية انتقائية، يفضي أيضاً إلى النسيان
ومثل بقية ثقافات العالم ذات الرصيد الحضاري الممتد، تُعلي الثقافة العربية، من قيمة الذاكرة، كما أن النص القرآني، يُعلي من شأن الذِكر والتذكّر. ولا يزال يعتبر الحفظ عن ظهر قلب ذا أهمية كبيرة ضمن هاته الثقافة التي بدأت التدوين مُبكراً، لذا فالمكوّن الذاكري هو جزء لا يتجزّأ من مجموع مكوّنات الثقافة العربية ومعها الإسلامية.
هي إذن ثقافة ذاكرية ودينامية بسبب غناها الحضاري وسِعتها الجغرافية وعمقها التاريخي الممتد لآلاف السنين، تنضوي تحتها ثقافات تذكّرٍ متنوّعة بتنوّع الجماعات الذاكرية بلغة المؤرخ والمنظّر الفرنسي موريس هالفاكس، فنحن إذًا أمام ثقافات تذكر متباينة من بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، بل ومن مرحلة زمنية إلى أخرى، وليس إزاء ثقافة منغلقة على هويتها المخصوصة بها، بل أمام ثقافات تذكّرٍ متنوّعة تشكل الفسيفساء الهووية للثقافة العربية الإسلامية.
من هنا وجب التشديد مرة أخرى على أن ثقافات التذكّر هي أيضاً ثقافات نسيان، كما أن وسائط التذكّر الثقافي هي أيضاً وسائط للنسيان الثقافي. وهذا ينطبق أيضاً على الثقافة العربية؛ فهي بدورها تنسى مثل بقية ثقافات العالم. وهنا يطرح التساؤل التالي ذاته: لِمَ تنسى الثقافات؟
والإجابة هي أنها ببساطة تتذكّر. أليس التذكّر في انتقائيته نوعاً من النسيان والحجب؟ فمثلما تتم استعادة محتويات ذاكرية محددة ضمن ثقافات التذكّر العربية المتنوّعة، يتم في الوقت ذاته استبعاد محتويات أخرى لا تلبي الحاجيات الجمعية والثقافية الراهنة. لذا لا يمكننا وصم الثقافة العربية بكونها ثقافة جمود أو ثقافة قطع لمجرّد تذكّرها أو نسيانها محتويات ثقافية دون أخرى، لكن يمكننا التساؤل بشكل موضوعي عن استراتيجيات ووضعيات كل من التذكّر والنسيان الجمعي ضمن الثقافة العربية، بمعنى ما الذي يجعلنا نتذكر (أو ننسى) بشكل منتظم شخصيات ثقافية وأحداثًا جمعية مؤثرة وأعمالًا أدبية وتيارات فكرية وأخرى سياسية، بل ومراحل تاريخية بأكملها، جاعلين منها أماكن رمزية لذاكرتنا بلغة المؤرّخ بيير نورا؟
لا معنى للقول بأن ثقافتنا جامدة يطغى ماضيها على حاضرها
إنها بالتأكيد الحاجيات الثقافية الراهنة والمصالح الاجتماعية المتباينة في الزمن الحاضر، التي تعكس البنيات الداخلية المُشكّلة للثقافة العربية، هي التي تدفعنا بالأساس إلى تذكّر أسماء وأحداث وحقب من ماضينا الجمعي ونسيان أخرى بشكل انتقائي وتلقائي إلى حد كبير.
كما أن التذكّر ومعه التناسي الأيديولوجي المُوجّه من طرف السلطة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية، غالباً ما يؤثر في المشهد الذاكري الرسمي، الذي يتباين من مجتمع عربي إلى آخر. وكل هذا الزخم الذاكري يجري ضمن منظومة هائلة من وسائط التذكّر الجمعية الرمزية والمادية، منها طقوس تذكّرية ونصب تذكارية، تنضاف إليها الجرائد والمجلات وصفحات المواقع الاجتماعية، بل وحتى الطوابع البريدية، ناهيك عن الندوات والبرامج الإعلامية والأعمال الإبداعية، بل ودراسات تشكّل مُجتمِعَة ثقافات تذكّر عربية تستعيد وتستبعد في آن واحد.
لذا يمكن الجزم إلى حد كبير أن الثقافة العربية الراهنة ليست بثقافة قطيعة ولا هي بثقافة جمود بل ثقافة استدعاء واستبعاد ونقاش فسيفسائي متنوّع، لا يسلم أحياناً من استقطابات أيديولوجية توظّف الذاكرة أداتياً بحسب عبارة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، نُعاينها بجلاء ضمن المجتمعات العربية في نظرتها الذاتية والغيرية. لذا فما أحوجنا إلى فهم أعمق للدور الهائل الذي تلعبه الذاكرة بوصفها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العربية، ففهم الذاكرة يشكّل بلا أدنى شك مدخلاً واعدًا لفهم أكثر موضوعية للثقافة العربية كمنظومة فُسيفسائية بدلاً من تأزيمها أو تبجيلها.
* كاتب مغربي مقيم في ألمانيا