أجملُ ما في الثقافةِ المحرِّرة، سواء مَثُلتْ في قصيدةٍ أو روايةٍ أو مقالةٍ أو أغنيةٍ أو حديثٍ أو عنوان معركةٍ، أنها تعيدُ تصويبَ بوصلة الوعي التي تصابُ بالخلل أحياناً، فتسدّد النظرَ والملكاتِ العقلية والأخيلة والأحلام والوقائع، نحو اتجاهٍ غابتْ عنه أو غاب عنها.
هذا هو ما حدثَ، ويحدث الآن، حين بدا أن مدنَ الساحل الفلسطيني المحتلّة منذ عام 1948، حيفا وعكا ويافا واللد والرملة.. وما جاورها من مدن وقرى، تعود، بمبانيها وحدائقها وشوارعها ووجوه سكّانها الفلسطينيّين وأصواتهم، إلى الظهور والحياة مجدَّداً كأنما من أعماق أرض اجتاحها زلزالٌ وأخفاها عن النظر والوجدان، وطمسَ حتى الطرق المؤدّية إليها، بل وجعلَ البحثَ عن هذه الطرق أو ارتيادها أمراً، ليس محرَّماً فقط، بل وغير مُفكَّرٍ فيه.
في ضوءِ أي لحظةٍ تاريخيةٍ عادتْ هذه المدنُ إلى فلسطينيتها؟ وعلى إيقاع أي نداءٍ استيقظتْ بعد أن حسبَ حتى أهلها الذين حُشروا في معازل سُمّيت "ضفّة غربية" و"قطاع غزة" و"مخيمات لجوء" أنها لم تعد موجودة؟
الجوابُ الذي لا بد أن يُنقش كما نقش أجدادُ العرب أخبار الملاحم على واجهات معابدهم الحجرية هو: إنها لحظة نهوض الشعب الفلسطيني من رماد نكباته المتواصلة وتحليقه على كامل تراب وطنه، جامعاً شتات فلسطين من نهرها إلى بحرها. إنها لحظة نداء ثقافة محرِّرة محتْ خرافاتِ عقودٍ من ثقافةٍ بلهاء انتحلت الصوت الفلسطيني.. طوال 73 عاماً، وآن لأصحابها أن يتشبّثوا بأذيال المحتلّين الصهاينة الذين اقترب موعد رحيلهم، ويغوروا معهم.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين