"الجدار الرابع" لسورج شالاندون: موت اللعبة

30 يونيو 2024
مسرحية أنتيغون تتحقّق هكذا على أرض الواقع
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "الجدار الرابع" لسورج شالاندون تستخدم مسرحية "أنتيغون" لاستكشاف الحرب الأهلية اللبنانية، معبرة عن الصراعات الطائفية من خلال المسرح.
- صموئيل يجمع ممثلين من طوائف متحاربة لعرض التنوع والتعقيد الطائفي في لبنان، محاولاً تقديم رؤية لمستقبل البلاد عبر الفن.
- الرواية تنتهي بتحول مأساوي حيث يعكس موت إيمان وانتقام جورج الدورة المدمرة للحرب والانتقام، مؤكدةً على تأثير الفن على الواقع والعكس.

ما يدعوني إلى إعادة قراءة "الجدار الرابع"، رواية الفرنسي سورج شالاندون في ترجمتها إلى العربية التي أنجزتها كيتي سالم وأصدرتها "دار الفارابي"، أنّ الرواية استعارةٌ للحرب الأهلية اللبنانية. إنّها لذلك تقع بالدرجة الأُولى في لبنان. ليس هذا وحده ما يُحفّز على قراءة ثانية للرواية، إنّه في الأكثر سبب أدبي؛ فالرواية، التي تدور أحداثها إبّان الحرب الأهلية، تبني في المقابل معادلاً رمزياً لهذه الحرب التي تقتصرها في مسرحية موازية هي الأُخرى حربٌ داخل الأهل. إنّها مسرحية "أنتيغون" التي تَعاقَب على كتابتها سوفوكل وآنوي وآخرون.

الجدار الرابع هو، كما تُقدّمه المسرحية، الفاصل غير المرئي بين المسرح والجمهور. قصّة شالاندون تبدأ من المسرح، إنّها قصة صموئيل إيكوس؛ اليوناني اليهودي الذي فرّ من اليونان، المحكومة آنذاك من طرف العسكر، إلى فرنسا. فاتنا أن نقول إنّ صموئيل مسرحيٌّ احتفت به الأوساط الفرنسية، لكن يخطر له، إزاء الحرب الأهلية في لبنان، أن يعرض فيه مسرحية "أنتيغون"، من تأليف الفرنسي الذي كان حيّاً وقتها جان آنوي.

تتمثّل كلُّ طائفة في المسرحية بحسب موقعها في الحرب

لا يقول شالاندون في ما فكّر سام، أي صموئيل، لكنّنا بالعودة إلى مسرحية "أنتيغون" كما ألّفها آنوي، نفهم أنّ القربى بين النصّ يوناني الأصل والحرب اللبنانية نابعة من كون المسرحية تدور بين الأقارب، من هنا طابعها الأهلي. تولّى كريون قريب أوديب الملك بعد وفاة أوديب، واقتضى ذلك منه مجابهة ولدَي أوديب الذي سايسه أوّلهما وخرج عليه ثانيهما الذي قُتل في المعركة. حكم كريون عليه بألّا يُدفن جثمانه ويُترك للعراء. ابنتا أوديب، أسمين وأنتيغون، اختلفتا في السلوك تجاه هذا الحكم. ارتضته أسمين ورفضته أنتيغون معرّضةً حياتها للخطر إذا قامت بدفن أخيها، وبالفعل دفنته وقدّمت حياتها ثمناً لذلك.

بين نصّ سوفوكل ونصّ آنوي فارق في التقديم، إذ بينما ينحاز الأول إلى كريون، ينحاز الثاني إلى أنتيغون. يمكننا أن نفهم كيف أنّ صموئيل، اليهودي الذي يصفه شالاندون بأنّه صهيوني لكن مُحبّ للفلسطينيين، فكّر بتقديم أنتيغون في لبنان الإخوة الأعداء على حدّ عبارة كازانتزاكيس. المسرحية يمكنها أن تتقمّص الظرف اللبناني بمختلف جماعاته المتقاتلة، والحربَ الأخوية التي بينها. لم تكن غاية صموئيل مجرّد عرضٍ لمسرحية آنوي، لا بدّ أنّه شاء أن يستحضر الحرب اللبنانية فيها. لا بد أنّه أراد أن يلعب هذه الحرب، على نحو ما، وأن يستشفّ مستقبلها الانتحاري.

لم يكن إعداد المسرحية سهلاً، فصموئيل أراد، بإصرار، أن تجمع المسرحية لاعبين من مختلف الطوائف المتحاربة، بل شاء أن تتمثّل كلُّ طائفة في المسرحية بحسب موقعها في الحرب. هكذا كانت أنتيغون إيمان الفلسطينية السنّية بالتالي، اختيارها على هذا النحو لم يكن اعتباطاً. شاء صموئيل أن يكون شربل لاعب كريون مسيحياً مارونياً، وأن يكون خطيب أنتيغون هيمون نكد الدرزي. أمّا الشيعة فقبلوا على مضض أن يلعبوا أدوار الحرس الثلاثة. هذه الترسيمة تحمل بالتأكيد رؤية صموئيل للحرب اللبنانية، غير أنّ الواقع تدخّل ليجلو هذه الرؤية، وليضيف إليها ما يمنحها صدقيةً أكثر.

يقع صموئيل مريضاً بالسرطان الذي تفشّى في جسده، بحيث كان عملياً في حال احتضار طويل. لكن صموئيل، المُصرّ على مسرحيته، يُكلّف، وهو على السرير، صاحبَه جورج، المسرحي هو الآخر، بأن يتابع بدلاً منه إعداد المسرحية التي كان معظم ممثّليها من المنطقة الغربية، سوى شربل الذي كان عليه أن يجازف بالمجيء الى المنطقة الشرقية، علماً أنّ أخاه من قادة القوّات اللبنانية. مضت أشهر والمسرحية تتعثّر بظروف الحرب، وحين بدا أنّها قاربت التحقيق، كان الإسرائيليون عندها احتلّوا لبنان وتركوا القوّات اللبنانية تقتحم مخيّم شاتيلا، وتعيث فيه قتلاً وتدميراً.

حين يدخل جورج إلى المخيّم، يجد جثّة إيمان، لاعبة أنتيغون، مدماة مقتولة مغتصبة. لقد انتهت المسرحية، ولم يبق إلّا أن ننتظر انتهاء احتضار صموئيل. جورج يعود إلى باريس وقد تغيّر كلّياً، وانهار من الداخل. مشاهداته في مخيّم شاتيلا، وبخاصّة منظر إيمان، أتلفته. لم يعُد قادراً على ملازمة بيته، ابتعد عن زوجته وابنته. في النهاية يعود إلى لبنان ليلتقي بشربل ممثّلِ كريون، وليطلب منه أن يستحضر أخاه قائد القوّات في موعد يمضي إليه جورج وحده، ليلتقي بالأخ القوّاتي وعندئذ يقتله.

مسرحية أنتيغون تتحقّق هكذا على أرض الواقع، بل الواقع دفعها الى أبعد. أنتيغون فلسطينية كانت الضحية، لكن موتها لم يكن النهاية، فقد انتقم جورج، الذي وفد من خارج اللعبة، لها. كان ذلك مجرّد انتقام، إنه نوع من موت المؤلّف، إذ في الوقت ذاته توفي صموئىل. هذا الانتقام وذلك الموت كانا فصلاً انتحارياً. لقد مات المُخرج، ومات القاتل، لكن ذلك لم يكن سوى موت المسرحية كلّها، سوى ارتطامها بواقع دفنها وأجهز عليها. لقد تحوّلت الحرب نفسها إلى نوع من مسرحية، لم تتحقّق إلّا بموت الجميع.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون