الرحالة الحجازي كبريت في عاصمة السلطنة

02 يوليو 2022
القسطنطينية عام 1559 في لوحة لـ ملشيور لوريتشس (Getty)
+ الخط -

تعد رحلة محمد بن عبد الله الحسيني المدني، الشهير باسم كبريت، إلى القسطنطينية وبلاد الروم واحدة من أهم رحلات الحجازيين الذين قصدوا عاصمة السلطنة في عهود سلاطينها الكبار الذين شهدت البلاد العثمانية في وقتهم أوج توسّعها. وقد وثق كبريت أحوال العاصمة في عهد السلطان مراد الرابع، وكتب عن كثرة المتزلفين على الأعتاب السلطانية من مختلف البلاد، ممن يتزيّون بأزياء كبار العلماء، وهم في حقيقة أمرهم متكسبون لا أكثر ولا أقل، الأمر الذي أثّر على رحلته التي لم تحقق هدفها بحصوله على وظيفة في الحرم المدني، كما كان يأمل. 

ولد كبريت في المدينة المنورة ونشأ فيها، وحفظ القرآن الكريم، واشتغلَ بالعلوم النقلية والعقلية، كما درس العلوم الرياضية، والحكمية، والطبيعية. وكان يطمح للحصول على وظيفة تليق بسعة معارفه، ولذلك قصد القسطنطينية عام 1629 م، وألفَ رحلته المعنونة بـ" رحلة الشتاء والصيف" بعد أن عاد، والتي روى فيها وقائع ومغامرات تعد من أهم المصادر عن تلك المرحلة الموصوفة بقلّة التآليف. 

ولكن مشكلة هذه الرحلة تكمن في أن أسلوب كبريت ومعاصريه وقع في أسر البلاغة والسجع، والطباق والجناس الذي كان يميِّز الكتابة في تلك الأزمنة، ومنذ العصر الأيوبي، فضاع كثير من الأوصاف بسبب تقعير اللغة، وغابت عن النص حرارة الوصف التي ميّزت نصوص الرحالة السابقين العظام؛ أمثال ابن جبير وابن بطوطة.

أدى تحريم القهوة إلى قتل ما يصل إلى عشرة آلاف شخص اتهموا بشربها

بدأ كبريت رحلته متخذاً طريق العقبة على البحر الأحمر، فمرّ بصحراء سيناء، وصولاً إلى القاهرة ثم الإسكندرية، ومنها إلى القسطنطينية. وفي عودته سلك الطريق البرّي، عابراً الأناضول إلى بلاد الشام، ومنها إلى موطنه الحجاز. 

من الإسكندرية إلى جزيرة رودوس
ركب رحالتنا البحر من الإسكندرية، متوجهاً إلى القسطنطينية عاصمة السلطنة، في الثاني عشر من كانون الأول/ ديسمبر 1629م، فوصل إلى جزيرة رودوس بعد أهوال وصفها بأسلوبه السجعي: "فسرنا تلك الليلة والليلة الثانية على أحسن حال وأنعم بال، ثم اضطرب البحر وقامت فيه العناصر بحيث كادت لا تبقي شيئاً على وجه الماء، وكان الجمع إذ ذاك ما يناهز الثلاثين سفينة، فتفرقت بجمعها حتى لا ترى واحدة منها واحدة، ولا تظفر عنها بنبأ، وقد عقد الغيم غمائم غمّه، وأمطرنا الوجل سحائب همّه، وأرسل الغمام علينا الأمطار كأفواه القرب، ولقد شاهدت الأهوال من تلك الأحوال ولا عجب".

ويضيف: "ثم لم نزل كذلك نجوب فيافي المهالك، حتى نظر الباري تعالى إلينا بعين الرحمة، وكشف عنا بمنّه غمائم الغمّة، ونحن في موج يرفع ويخفض، ويجرجرنا إلى ما يُسقم ويُمرض، والريح تضرب الشراع، وتمزق القلاع. فأقمنا على الماء تجاه جبال رودوس أياماً لوقوف الريح، وقد شابت رؤوس الجبال، واكتست عمائم الثلج، وخاضت آراء الرجال في الهرج والمرج، وتمزقت بالأهوية القلوب والأستار، والبارق يكاد سنا برقه يذهب الأبصار، ولما أمسينا ذات ليلة، هبّت علينا نسمة سارت بها الركبان، فوصلنا إلى رودوس أقل ما كان يتوقع، بل ربما كان ذلك في الواقع".

موكب السلطان بالقسطنطينية، في لوحة لـ جان باتيسيت فانمور، 1736 (Getty)
موكب السلطان بالقسطنطينية، في لوحة لـ جان باتيسيت فانمور، 1736 (Getty)

ويصف رودوس بأنها "بلدة لطيفة الشمائل، وريفه المنازل، ذات أسوار مانعة، وأشجار يانعة، وطيور مختلفة، وقصور مؤتلفة". لكنه يعيب عليها ماءها الذي رآه "أثقل من الرصاص، والإقامة فيها تقوم مقام القصاص"، في إشارة إلى صعوبة الحياة فيها، مشيراً إلى وجود سوق للدعارة، وكثرة شرب الخمر الذي لا يُفرِّق فيها الفساق "بين الراح والماء القراح"، لكثرته.

في القسطنطينية
وبعد أن أقام في رودوس نحو شهر، وعانى الضيق بسبب ما ذكره عن حالة الانفلات التي تعيشها الجزيرة، ركب أحد الأغربة، وهي سفن ذلك الوقت الشراعية، ومضى إلى جزيرة صاقص، ومنها تابعت سفينته مسيرتها إلى بحر مرمرة، حيث وصلوا إلى القسطنطينية في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، الموافق للخامس من شباط/ فبراير 1630م. وقد وصف لحظة دخوله إليها بقوله: "فإذا هي بلدة تعطرت أرجاؤها عبهراً وعبيراً، وإذ رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً، وقد تفردت بالكبر وحسن العمارة وسعة المكان، وقال لسان النظر لما شاهد جمالها الباهر وجلالها القاهر: ما في الإمكان أبدع مما كان، وكيف لا، وقد تزينت بحلول من رَتَع العالم في ظل عدله بالأمان، صاحب البند والعَلَم، والسيف والقلم، السلطان مراد، علا على كل سلطان بسطوته، وقدمته ملوك الأرض بصولته".

ويبدو أن رحالتنا حظي بالدخول على مجلس عِلم من مجالس السلطان مراد الرابع، فامتدح سعة معارفه. وبعد أن عدد بعض الأسماء من الآغاوات الذين التقاهم في تلك الفترة، يصف لنا موكب السلطان المتجه لصلاة الجمعة في جامع أبيه السلطان أحمد، حيث يقول: "فلا زالت سيوف الشريعة في أيامه الشريفة مسلولة، وبقاع الأرض بندى عدله مطلولة، ولا برح في سيادة يخدمها المَلَوان، وسعادة يثني على حسن حالها الأطيبان، والله تعالى يحسن ختام أموره، ويديم إشراق سعوده وبدوره". 

والتقى كبريت في زيارته للقسطنطينية قاضي العسكر أبو سعيد محمد بن أسعد الذي قدم له هدية، والمولى محمد أفندي الحياتي، والذي وجد فيه نديماً ذا نفس حرّة، كريم الأخلاق، ساهم الاجتماع به بكسر قسوة الغربة التي شعر بها في هذه المدينة الكبيرة. 

مشكلة تحريم القهوة
وينقل لنا كبريت جانباً من الجدل حول تحريم القهوة، والذي كان مستمراً منذ أكثر من مائة عام، وفي ذلك يروي حوارية بين الصدر الأعظم مسيح باشا الذي كان يعيش في عهد بايزيد الثاني، وبين المتصوفة الذين كانوا متحمسين للقهوة: "حكي أن الوزير مسيح باشا أمر بإبطال القهوة، فقال له بعض الفقراء (الصوفية) إن القهوة لا تبطل، فقال ولم؟ قال: لأن حسابها موافق اسم الله تعالى قوي، بمعنى أن كلاً منهم له من العدد مائة وستة عشر، فلها منه الاستمداد، فأمرها وشأنها قوي، فلم يسعه التأخر لأمر السلطان مراد، فما أفاد المنع، وكان الأمر كما قيل. واشتهر استعمال لفظ جبا عند تقديمها، ولا أعلم ما أصله، إلا أنه ورد مورد الهبة، ولا يخفى ما فيها من الفرح الذاتي".

ومن المؤكد أن رحالتنا يلمح إلى تحريم السلطان مراد الرابع لشرب القهوة تحريماً أدى إلى قتل ما يصل إلى عشرة آلاف شخص اتهموا بشربها، فهو وبحسب التقارير التي كانت تصل إليه من ضباطه كان يرى فيها رفيقة للمتآمرين ضد عرشه، على الرغم من إدمانه هو شخصياً على شربها في مجالسه الخاصة.

ويذكر رحالتنا حضوره صلاة الرغائب في اسطنبول، وهي غير معروفة بالحرمين الشريفين كما يقول: "هي أول ليلة جمعة من رجب، تصلى فيما بين العشاءين اثنتي عشرة مرة، فإذا فرغ من صلاته قال: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آله، وبعدما يسلّم سبعين مرة، ثم يسجد سجدة يقول فيها: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة إلخ".

جيوش المتزلفين
ويعدد كبريت جملة من أسماء الشخصيات التي قابلها في دار السعادة؛ مثل نقيب الأشراف شيخ أفندي، والشيخ عبد الرحمن العشاقي، وشيخ الطريقة القادرية، وغيرهم من الشخصيات العربية التي استقرت في عاصمة السلطنة، حيث دارت بينه وبينهم مطارحات أدبية وفقهية تشير إلى سعة مطالعاته، وقدرته على استحضار أبيات الشعر. ويصادف أثناء وجوده في إسطنبول بروز صرّة الحرمين الشريفين في موكب لطيف، في يوم مطير، وهو بالنسبة له يوم عبوس قمطرير، ليس بسبب الطقس فقط بل بسبب الإهانة التي تعرّض لها أبناء الحرمين الشريفين في القسطنطينية كما يقول، بسبب الازدحام على الصدقات في ذلك اليوم.

وبعد أن أقام في العاصمة شهرين، وهو يمنّي النفس بتعيينه في وظيفة من وظائف الحرم ولم يحصل عليها قرّر العودة إلى دياره في الحجاز. وقد شرح الحالة التي وصل إليها نتيجة انتظاره الطويل لتحقيق مطلبه، من دون أن يتحقق له ذلك بطريقة ساخرة حيث يقول: "كنت أزعم أن أصير باختلاطي بالروم بعد العرب جامع الفضيلتين، ولا أقول القياس إنما يتبع أخس المقدمتين، إلا أنني حصلت من الفقه على مسائل الطهارة، وفي الإشارة ما يغني عن العبارة، وصرت لا أعرف من النحو بعد ذلك الثبوت، إلا كثر شربي السويق وهو ملتوت، ولا أفهم من التصريف مقالاً، إلا قاتل يقاتل مقاتلة قتالاً، ولا من المنطق بعد بذل المجهود، إلا إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود". 

بورتريه للسلطان مراد الرابع
بورتريه للسلطان مراد الرابع

وفي تبريره لحالة الإعراض التي لقيها في العاصمة؛ يشير إلى وجود الكثير الكثير من "طوائف القدسيين والشاميين وغيرهم، ذوي عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، قد لزموا تلك الأبواب لزوم الكاتبين، وصار أحدهم مع الرئيس كالخصمين المحاسبين، يطالبه بجائزة شعره، لو شعر بحقيقة أمره لاستحى منه ولزم حده بقية عمره". ويضيف: "ولذلك انقطعت السبل عن أهل الحياء، ونفق في سوق النفاق عروض أهل الرياء".

من أُسكدار إلى ضريح جحا
ويخبرنا بأنه قطع الخليج السكندري، ويقصد به مضيق البوسفور، إلى أُسكدار على الجانب الآسيوي منه، ويصف أسكدار بأنها "بلدة عظيمة المقدار، بها الجوامع الجامعة، والمدارس الساطعة، والمباني المشيدة، والأسواق المتعددة، وعرض هذا الخليج مقدّر بستة أميال، والميل البحري مقدّر بألف باع وقيل بأربعة آلاف خطوة، والخطوة ذراع ونصف". 

ومن أسكدار يصل إلى بلدة غيبزة التي يسميها قبيزة، حيث يصفها بأنها بلدة بديعة المعاني، آهلة المغاني، فنزل "بخانها الأمين المأمون، وقد أصابهم بردها الميمون"، الذي قاوموه بالحطب الذي خنقهم دخانه. 

كتب عن كثرة المتزلفين على الأعتاب السلطانية من مختلف البلاد

ومن غيبزة يتابعون سيرهم إلى قرية جاور كوي، أي بلدة النصارى، وتقع كما يقول على خليج أكبر من خليج البوسفور، وهناك اجتمعوا بأمين الصرّة الأمير محمود آغا. ولما كان الضحى وصلوا إلى أزنيق وهي بلدة مسورة كما يقول، بها الجداول والأشجار المختلفة الثمار، وإليها ينسب الفخار الأزنيقي، لأن بها مصانعه وأحجاره.

ومن هناك يتوجهون إلى بلدة تدعى لفقة التي يصفها بأنها لطيفة، ذات أشجار يانعة وريفة، ثم إلى سقوت، وهي بلدة رحيبة الجناب، مخضرة الأرجاء والرحاب، إلى أن وصلوا إلى مدينة أسكي شهر، ومعناها كما يقول المدينة القديمة. وقد وصفها بقوله: "حفت بها الأشجار، وجرت في رياضها الأنهار، ومن العجائب بها حمّامها الذي ماؤه أحرّ من الجمر، من غير صنعة بشرية، لأن منابعه من معادن كبريتية، وبها النهر التيار الذي لا يجاز إلا من جسره". 

ويقول إنه أقام بها خمسة أيام، واستأجر فيها بغلاً أوصلته إلى بلدة السلطان غازي. وهي بلدة آهلة المغاني كما يقول، بديعة المعاني، سميت باسم فاتحها سنة إحدى وعشرين وتسعمائة، وقبره على الجبل المطل عليها. بعد ذلك يصل إلى قرية تسمى بلاوضون ويقول إنها كثيرة الخيرات، بها الأشجار المؤتلفة والمختلفة، ومنها إلى مدينة آق شهر، ومعناها القرية البيضاء، ويمتدح أشجارها وخانها، ويشير إلى وجود قبر الخواجة ناصر الدين الذي يزعمون أنه جحا الشهير بضرب أمثاله بالجد والهزل. 

مدينة قونية الرائعة
ومن أق شهر يتوجه إلى بلدة إيلغين التي يصفها بالبلدة العظيمة التي فيها جامع لا نظير له بني باسم مراد. ويقول إنها بلدة كثيرة الثلج وفيها حمّام للرجال وآخر للنساء، ماؤه حار ليس بصنع البشر، أي أن مياهه معدنية، ومنها إلى لادك ثم قونية.

ويصف قونية بقوله: "نزلنا بجوار الملاخنكار صاحب المثنوي (يقصد جلال الدين الرومي)، وأقمنا بها ثلاثة أيام، كأنها ساعة من منام، لما فيها من الخيرات وصفاء الخاطر، وهي بلدة عظيمة مسورة بسور يعرب عن قوة بانيه، وهي كثيرة الأشجار، غزيرة الأنهار، محفوفة بالأزهار، أهويتها كأنها تهب بنسمات الأسحار، رأيت بها خمسين حانوتاً تصنع بها الحلوى الملونة، ولا يبقى آخر النهار منها شيء، وهي منتصف الطريق إلى حلب، وللملاَّ (جلال الدين) في ضحوة الخميس والاثنين وبعد صلاة الجمعة حضرة بالدفوف والقصب، تأخذ بمجامع القلوب الخلية، فيتواجدون عليها".

ويستطرد كبريت في وصف محطات طريقه عابراً وسط الأناضول، ممتدحاً جمال القرى والمدن التي مر بها، إلى أن يصل إلى مدينة بانياس التي يصفها بأنها بلدة على ساحل البحر الشامي، وبذلك يدخل إلى بلاد الشام بعد أن خلف وراءه بلاد الترك.

المساهمون