في آذار/ مارس الماضي، شهدت بودغوريتسا؛ عاصمة الجبل الأسود (مونتينيغرو) حفل إشهار الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بترجمة جمال رجب ماتوفيتش Dž.Redžematić، والتي صدرت عن دار هوريزنتي Horizanti في مدينة توزي بالجبل الأسود.
ولكن هذا الإنجاز غير المسبوق حظي بالاهتمام أكثر عندما أُقيم حفل لإشهاره خلال حزيران/ يونيو الماضي في مدينة ترافنيك التاريخية بالبوسنة، والتي كانت قد شهدت آخر حضور لدرويش خلال مشاركته في مهرجان الشعر بسراييفو في أيار/ مايو 2008 وتكريمه بجائزة المهرجان، واستقباله من قبل الرئيس حارث سيلاجيتش، وإصدار مختارات شعرية جديدة له.
يتوِّج هذا الإصدار عقوداً من الاهتمام لدى عدّة أجيال من العاملين في مجال الدراسات الشرقية في المراكز الثلاثة التي برزت بيوغسلافيا السابقة خلال القرن العشرين، وبالتحديد في "جامعة بلغراد" (1926) و"جامعة سراييفو" (1950) و"جامعة بريشتينا" (1973). ويبدو أن قسم الدراسات الشرقية في "جامعة بريشتينا"، والذي غلب عليه جيل الشباب، كان أقرب إلى محمود درويش الذي حظي باهتمام مبكر وإصدار أُولى المختارات الشعرية له بيوغسلافيا السابقة. وقد تصدّر الترجمةَ لأشعاره في 1978 فتحي مهديو ومحمد موفاكو، الذي أبرزه ضمن السياق العربي في "أنطولوجيا الشعر العربي" التي صدرت في بريشتينا عام 1979.
وفي غضون ذلك، كان أسعد دوراكوفيتش، الذي تخرّج من قسم الدراسات الشرقية في "جامعة بلغراد" وانضمّ إلى قسم الدراسات الشرقية في بريشتينا عام 1975، من أبرز من أسهموا في تعريف القراء في يوغسلافيا السابقة بدرويش ضمن الاهتمام العامّ بالشعر الفلسطيني؛ فقد أصدر عام 1979، بالتعاون مع راده بوجوفيتش؛ أستاذ الأدب العربي في قسم الدراسات الشرقية بجامعة بلغراد، "مختارات من الشعر الفلسطيني"، التي كان حضور محمود درويش بارزاً فيها؛ إذ احتلّت قصائده قرابة ربع الكتاب. وبعد صدور هذه المختارات، تابع دوراكوفيتش اهتمامه بمحمود درويش وأصدر عام 1984 مختارات باللغة الصربوكرواتية بعنوان "قصائد مقاومة"، وقد كانت الأولى من نوعها في يوغسلافيا السابقة، وحظيت بالاهتمام وصدرت طبعة ثانية لها في 1989.
أثمر هذا الاهتمام بمحمود درويش لدى اثنين من طلّاب دوراكوفيتش: عبد الله حميدي في بريشتينا وميرزا سارايكيتش في سراييفو؛ فقد بدأ حميدي مبكرا في ترجمة أشعار درويش إلى الألبانية بين 1985 و1988، بينما نشر في 2013 مختارات من أشعار درويش بعنوان "قصائد للمقاومة والحرية". أمّا سارايكيتش فقد أعدّ في 2008 - وهو العام الذي زار فيه درويش سراييفو للمشاركة في مهرجان الشعر - مختارات بعنوان "أبد الصبّار"، ثم اختار تجربة درويش الشعرية موضوعاً لرسالته للدكتوراه، والتي صدرت في سراييفو عام 2019 بعنوان "جماليات المقاومة في أعمال محمود درويش"، وهو من كتب أيضاً مقدّمة المختارات الجديدة التي أصدرها جمال رجب ماتيتش في أربعة مجلدات ضمّت 22 مجموعة شعرية لدرويش.
مثّل صدور هذه الأعمال الكاملة مفاجأةً جديدة؛ نظراً لأنّها جاءت بتوقيع أزهري يحتلّ منصباً رفيعاً في الهرمية الدينية التي تمثّل المسلمين دستوريا في جمهورية الجبل الأسود: رئيس الأئمّة في منطقة بودغوريتسا العاصمة ومنطقة نيكتيتش المجاورة، كما يمثّل ثقافةَ البشناق في الجبل الأسود، والذين يُعدّون أقلّية معتبرة تشكّلت بعد احتلال النمسا للبوسنة في 1878 وهجرة بعض البشناق إلى الجبل الأسود واقتسام إقليم السنجق بين صربيا والجبل الأسود.
ترجمةٌ من خارج أقسام الدراسات الشرقية في البلقان
في هذا السياق، كانت ترجمة أعمال محمود درويش خلال عدّة عقود حكراً على أساتذة أقسام الدراسات الشرقية في بلغراد وسراييفو وبريشتينا وطلّابهم، بينما جاء الآن منافس لهم من المؤسَّسة الدينية التي ترعى شؤون المسلمين الروحية والثقافية لكي يترجم مجمل أعمال درويش الشعرية، وليس مجرَّد مختارات.
ولكنّ هذا المنافس حمل معه بُعداً سياسياً ثقافياً تمثَّل في حفل الإشهار للمختارات سواء في بودغوريتسا أو ترافنيك، ألا وهو المقاربة بين مصير الفلسطينيين والبشناق التي أصبحت تُفسِّر هذا التقارب الروحي والثقافي (وحتى السياسي) بين الفلسطينيّين والبشناق؛ سواء كأغلبية في البوسنة أو كأقلّية في صربيا والجبل الأسود. ففي حفل بودغوريتسا، عبّر عن ذلك الشاعر البشناقي المعروف هاجِم حيدروفيتش والكاتب البشناقي كمال موسيتش الذي قال: "لا يمكن للإنسان الذي يقرأ أشعار محمود درويش ألّا يلاحظ التشابه بين البشناق في الجبل الأسود والشعب الفلسطيني"، في إشارة إلى تجربة التشرّد من البوسنة واللجوء إلى المناطق المجاورة في انتظار العودة التي لم تتحقّق.
كانت هذه المفاجأة ما استرعت جريدة "مونيتور" التي تصدر في الجبل الأسود لتسأل "رئيس الأئمّة"، حفل الإشهار الأوّل ببودغوريتسا في آذار/ مارس الماضي، عن الدافع لإنجاز مثل هذا العمل الضخم وما بعده، فردّ بأنّه كان، في البداية، يُترجم المؤلّفات الإسلامية، إلى أن شارك قبل عدّة سنوات في "الدروس الحسينية" التي تُعقد في الرباط خلال شهر رمضان، فوجد خلال زيارة له إلى إحدى المكتبات الأعمال الشعرية الكاملة لمحمود درويش فاشتراها. وفي تلك الليلة بدأت نواة هذا المشروع في غرفته بالفندق؛ حيث ترجم أوّل قصيدة، ليتحمّس ويتابع العمل بعد عودته إلى بلاده حتى أكمله بعد أربع سنوات.
في هذه الترجمة الجديدة لدينا مقدّمة ميرزا سارايكيتش، الذي أصبح متخصّصاً في العالم الشعري لمحمود درويش، والتي أشاد فيها بترجمة ماتيتش لكلّ النتاج الشعري لدرويش لكي يُقرأ الآن كاملاً في البوسنوية؛ وهو "ما لم يكن بالأمر السهل"، وفق تعبيره. أمّا المترجم رجب ماتيتش، فقد بقي في الخلفية، وقال في حديثه المذكور مع جريدة "مونيتور" إنّ "شعر درويش يمكن أن يقرأ جوهرَه فقط من يُحبّ قراءة الشعر ومن يحبّ فلسطين"، وتمنى أن يحظى عمله بـ"نقد موضوعي من المتخصّصين"؛ أي الأكاديميّين الذين اهتمّوا بدرويش خلال العقود السابقة وترجموا بعض أعماله. ومن المأمول ألّا يبقى هذا الإسهام الكبير خارج الاهتمام الأكاديمي في أقسام الدراسات الشرقية، التي يجب أن تنفتح على مثل هذه الإسهامات للعاملين في المؤسَّسات الأُخرى المعنيّة بالثقافة العربية من منظور مختلف.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري