في عيد الشعر، يتبادل شعراء العالم التهاني والأمنيات والورود وعبارات "وافر الصحّة والخيال". وربّما تناوبوا على الميكروفون في مكانٍ ما وقرأوا شيئًا من قصائدهم قبل أن يتقابلوا على طاولةٍ ويرفعوا الكؤوس عاليًا نخبَ الشّعر.
وبالرغم من أنّ الحياة صارت أرقامًا رياضية وآلات حاسبة، فإنّ صناعة الوجدان ما زالت رائجة وبمقدورها أن تُنافس صناعة الأسلحة وآخر العتاد الحربي وباقي أشكال التعبير الأخرى. وما زال بمستطاع الشعر أن يؤرّخ لآلام وانتكاسات الشعوب وتقلّبات الذات وتطلّعاتها؛ أن يُشيع قيَم الجمال وعناصر التسامح والتعايش فوق كوب الأرض؛ ويستدرج وجدان الإنسان ويفضح بشاعة العالم.
ما زال للشعر أنبياءٌ وفرسانٌ. بل لا أحد يعرف عدد الشّعراء الذين يدبّون فوق الأرض أو على الأصحّ فوق بياض الورق وبياض الحواسيب، وإن كان صعبًا أن نُدرج هؤلاء جميعًا في خانة الشعراء ونُسبغ عليهم نعمة الشعر أو لعنته، لاعتبارات مرتبطة بماهية الشعر وأحيانًا لاعتبارات جمالية ولغوية. المهمّ أن يُزهر الشّعر بطيوره وبالذين يصفّقون للطيور. وبحقوله الواسعة وبتماثيل من الأسمال التي تحرس الحقول. كما أن أرض الشعر تسَعُ للجميع، ولا تُشجّع على هذه المزايدات والحروب التي تُدار باسمه بمناسبة أو بدونها.
ما زال بمقدور صناعة الوجدان أن تُنافس صناعة الأسلحة
فضلًا عن أنّ الشعراء مسالمون بطبيعتهم ولا يُزاحمون أحدًا على أرضٍ أو سماء: فقط يرمون بالصنّارة في الأعماق وينتظرون على الحافّة. هناك مَن تبتسم صنّارته فيملأ سلّة الدوم بالأسماك ثمّ ينصرف. وهناك مَن لا ينزعج من صيد أطراف الأحذية والصنادل وعلب المصبّرات الصدئة وسراويل سباحة متخلّى عنها؛ يفعل ذلك كطقس يومي، طَمَعًا في السمكة التي لا تظهر. السمكة التي تقرص الطُّعم وتختفي بعدما أن ترتعش القصبة ويبتسم الصيّاد.
طبعًا، الشّعر لا يرتهن دائمًا بالصنّارة وبصبر أيّوب ومشية السلحفاة. إنه مُباغتٌ غالبًا، ومُقتحِم كالتهمة أو الإشاعة أو كأيّة ضربة غدر في الزحام. ولا يعوّل على المؤسّسات وعلى مدرّجات الجامعات وعلى متقاعدي الوظيفة العموميّة والسياسيين الفاشلين والبرجوازيين الجدد الذين حطّوا رحالهم في أرض الشعر في سنّ متأخّرة، وجلسوا يكتبون شيئًا قبل النوم فوق "الفوتوي" طَمَعًا في أشياء غير واضحة.
وعليكَ أن تشرح لهم بأن الشعر ليس مكسبًا ولا غنيمة، ولا وسيلة للتسلية أو الارتقاء الاجتماعي. ولا أكاديميا حتّى. إنّه الرّهان الكبير على الخسارة والمشي وحيدًا في الاتّجاه المعاكس، وعملية غسل الأدراج من الأسفل إلى الأعلى. إنه عملٌ تطوّعي تُميّزه الموهبة والاندفاع الشخصي. وأكبر من أن يحتويه سقفٌ أو يروّج له وكلاءٌ معتمدون ومزمّرون طارئون. إنه يراهن على نفسه وعلى الأماكن المفتوحة وعلى الزمان وعلى التقادم، مثل تحفٍ فنيّة.
ليس الشعر مكسباً ولا وسيلة للتسلية أو الارتقاء الاجتماعي
في عيد الشعر، أفكّر في الشّعراء الذين جاؤوا إلى القصيدة مدفوعين بالجنون وبرعاية آلهة غير مرئية، واحترقوا سريعًا مثل شموع في مهبّ الريح، فرحلوا في جنازات يتيمة مثل يُتْم الشعر نفسه، فيما تخلّفت قصائدهم العظيمة لتشعّ عبر العصور والأزمان. أفكّر في الذين أغواهم مهرجان القيامة وكورال الخسارة، فذهبوا إلى الموت بمحض إرادتهم، أو ماتوا بسبب سرطان الإهمال والتجاهل، وقسوة كرابيج الحياة، وسياط الحكّام وجنرالات الجيش. الذين اختنقوا بسبب قلّة الأكسجين.
أفكّر في حياتي التي قضيتها مثل فأر صغير بين أوراق الكتب، وخلفَ ضوء الحاسوب مذعنًا لأزرار الحداثة حتّى ضعُفَ بصري واعتلّت أعصابي دون أن أفصح أو أغيّر المهنة. وصار لديَّ يقينٌ عميق بأنّ ما أكتبه إمّا رديءٌ جدّا وإمّا مختلفٌ جدَّا وغير مفهوم بالمرّة. ومع ذلك ما زلتُ أجلس في عمق الهاوية بمحض إرادتي وسوء تقديري. ومتى كان تقدير الشّعراء صائبًا؟
لكنْ بالمقابل، ربحتُ وجهي الذي تلطّخ كثيرًا بحبر المطابع والصحف. ربحتُ قرّاءً مُحبَطين وصداقات افتراضية غامضة. ونجوتُ بطباعي البرّية من كوارث العالم. ويحدث أن أسقط على وجهي وأعاودَ النهوض كجزءٍ من عمل الحياة وعمل الشّعر دون أن أستسلم. مشكلتي أنّني لا أتقن الماركيتنغ ولا أعرف أن أروّج لقصائدي اليابسة أو أدافع عنها. أو على الأقل أن أنشر إعلانًا بخصوصها في موقع إعلانيّ كأيّة سيارة مستعملة ومنتفخة بالصباغة، والتي تمَّ التقاط صُوَر لها من زوايا مناسبة كي تبدو جيدة. غالبًا أحشو بضاعتي في كيسٍ خشنٍ وأقرفص في زاوية مهملة في سوق الشّعر، برأسٍ مكشوفٍ وأنتظر. أنا أمزح فقط.
في عيد الشعر، أدرّب حواسّي على اليُتْم. ولا أنتظر دعوة من أحد. أرتجل الابتسامات وأطهو الأيام بالأمل وبقليل من القهوة والإحباط. أجري جردة حساب لقصائدي التي كتبتُها على عجلٍ. أجمع حطام أغراضي بمكنسةٍ وأقف متأرجح العينين، دون أن أنبسَ بشيء.
أنكفئ على نفسي وأتأمّل وجهي القديم الذي وصل إلى المدينة على متْن سيّارة فلّاحية مكشوفة وضاع في الزحام وضاعت الحكاية الأولى. هذا مناسب جدًّا لرجلٍ محايد، ليس مع ولا ضدّ، كي يكتب الشّعر بطريقته. مناسبٌ أيضًا لشهر مارس وفصل الربيع ويوم عيد الشعر الذي لا يبدو قاحلًا على كلّ حال. فهناك غيومٌ ترعى جادّةً في السماء. وحفيف الأشجار المبتلّة بالمطر. وهناك مَن يجلس إلى طاولة ويكتب قصيدة في مثل هذه الساعة المتأخّرة من الليل.
* شاعر وكاتب من المغرب