يتحرّك الأدب بصورة عامة في العالم الداخلي للبشر، يرصد ذلك العالم المختبئ، ويفكّك عُقَده. الأمر الذي يجعل من الشخصيات التي تعيشُ أزمةً ما، شخصياتٍ غنيّة في عالم الأدب. من نافل القول إنّ الحياة الداخلية للشخصيات أكثر عمقاً ممّا يتهيّأ للكاتب عندما يبدأ الكتابة. ومع تقدّم مشروعه يجد نفسهُ يحفر ويحفر كي يصل إلى العمق النهائي الذي لا يترك عنده لشخصياته ما هو غير معروف للقارئ.
على نحو ما، يفعل الكاتب ما بوسعه كي يضع شخصياته المفترضة في اختباراتٍ دائمة، وذلك كي تقدّم كلّ ما لديها، وتعرض تجربتها على الصفحات أمام بشرٍ واقعيّين. وفي هذه الورشة التي اسمها الكتابة، مَنوطٌ بالشخصيات أن تساعد مؤلّفها على فهم الذات العميقة للبشر، أن تقترب من مخاوفهم وانشغالاتهم النفسيّة. يشعر الكاتب بالحريّة وهو يتعامل مع شخصية مُتخيّلَة، فهو يستطيع أن يدفع بها إلى أن تقتل ويختبر عبر ذلك آثار الجريمة؛ يستطيع أن يدفع بها إلى أن تحبّ بأقصى ما تملك من تعابير، ويختبر بذلك آثار الحُبّ. وما يصنع الكتابة في النهاية، هو تعقّب تلك الآثار في العالم الداخلي للبشر. ماذا فعلت بهم الجريمة؟ ماذا فعل بهم الحُبّ؟
ينجح ما هو مُتخيَّل في أداء وظيفتهِ بقدر ما يكون استعارةً محكمةً عن الواقع. وتتيحُ الكتابة للشخصيات، كما للكاتب، أن يكونوا أحراراً في التعبير عمّا هو مكبوتٌ ومقموع داخل الإنسان. ومنوطٌ بالكاتب ألّا يترك لدى شخصياته ما تخجل بهِ أو منهُ. لا يترك الكاتب للشخصيات أيَّ ستار يحميها، فالكتابة تناقض الشعور بالعار. بالتالي، الكاتب يجهد شخصياتهُ كي تقول كلّ ما لديها.
ومسرحية "زجاج مكسور" للأميركي آرثر ميلر (1915 - 2005) مثالٌ للإجهاد الذي يُخضع الكاتبُ فيهِ شخصياته. في مقدمة الترجمة التي أنجزها الشاعر والكاتب السوريّ ممدوح عدوان (1944 - 2004) دراسةٌ تفصيليّة عن المسرحية، وعن أهمّيتها في مسيرة ميلر. فالعمل الصادر سنة 1994، بحسب عدوان، نداءٌ لليهود كي يعودوا بشراً أسوياء، ذلك أنّ العالم سئِمَ من احتكارهم موقع الضحية.
للشخصيات أن تساعد مؤلّفها على فهم الذات العميقة للبشر
يصوغ المسرحي الأميركي هذه المقولة عبر إجهاد الشخصيات للوصول إلى أعماقها. تفقد الزوجة في المسرحية الشعور بجسدها، وتُصاب بالشلل. يبحث الطبيب في عوالم الزوجين، ويستفزّ عبر افتراضاتهِ لمرض الزوجة كلّ الاحتمالات التي قد تسبّبت في مرضها المفاجئ. كما يفترض أنّ المرض في عقل الزوجة، لا في جسدها. وعليه يسأل الزوج عن علاقته مع زوجته، ويكشف ادّعاءات الزوج الذي أراد أن يتستّر على عجزهِ الجنسي. إذاً، هما زوجان يعيشان من غير حُبّ. لكن إلى جانب ذلك نعرف أنّ الزوجة مهووسة بأخبار اليهود في برلين خلال حكم النازية، فيما الزوج مهووس بنفي صفة اليهودي عنه. كلاهما مشغول بكونه يهودياً؛ أحدهما بتأكيده يهوديته والآخر بإصراره على نفيها، حتّى أنّ الزوجة تخاف من زوجها الذي يُظهر كراهيةً لليهود.
عندما يعرف الزوج من خلال الطبيب عن وجود يهود صينيّين، وأن أشكالهم أشكال رجالٍ صينيين، لا يهود؛ وعندما يسخّر العمل، على الرغم من جهده، كي يظهر باعتباره آخرَ، غير يهودي؛ يواجه الزوج المرآة، ويتحرّر من يهوديّته، ويصارح زوجته بأنّهم ليسوا مختلفين عن البشر الآخرين. بذلك تتحرّر الزوجة من خوفها من زوجها الذي كان يكره نفسه. فتشعر بجسمها، وتعود للحركة، وتنتهي المحنة هنا، وهي محنة شعورهم بأنّهم يهود.
باستخدام مرضٍ ذي منشأ نفسيّ، وهو كُره الذات، يعرض الأدب ممكناته في سلسلة محمومة من المواجهة مع الذات التي تمقت نفسها. لا يفوت عدوان في مقدمتهِ الإشارة إلى أبعاد الدعاية اليهوديّة التي دفعت اليهود إلى أن يكرهوا أنفسهم، فالعالم وفق مزاعمهم يكرههم. لكنّ ميلر أوصل هذه المقولة عبر تطويع الأدب الذي فكّك عقدة الزوج، ومن ثمّ الزوجة، من أجل مواجهة النفس وتقبًّلها.
* كاتب من سورية