استمع إلى الملخص
- أثناء صلاة العيد، يدخل الطيران الحربي الأجواء، مما يثير القلق وينهي الإمام الصلاة بسرعة. يتوجه الجميع إلى المقبرة لزيارة قبور أحبائهم الشهداء، حيث تزدحم بالأحياء الذين يعبرون عن حزنهم.
- مع استمرار القصف، تتلقى مريم مكالمة من والديها القلقين في مصر وتطمئنهم كذبًا. يعودون إلى البيت حيث يزداد القصف ضراوةً، ويكتشفون أن الجيش الإسرائيلي بدأ عملية عسكرية في المخيم، مما يزيد المخاوف من الاجتياح.
فتحت نافذة بيتي المطلة على شجرة اللوز التي تتفتحُ أوراقها الناجية من القصف، أبتسم وهواء الفجر الندي يرتعشُ على الستائر، أجلس إزاء النافذة أرتشف القهوة في أول صباحٍ لعيد الفطر، فشجرة اللوز هذه لم تذبل على الرغم من البتر العميق الذي أصاب بعض أغصانها، وها هي أوراقها الخضراء تتفتح من جديد، أضعُ القهوة والكعك على الطاولة، وأبتسم وأنا أتذكر صوت أخي الذي كان يجادلني أمس: لا تصنعي الكعك، ولا تضعي حلوى على الطاولة، فنحن لم نبرأ من جراحاتنا بعد، وهذا لا يليق!
: بل يليق! انظر إلى النافذة، ها هي اللوزة تتفتح وترسم عيدها، نحن أحق الناس بالعيد وبالحلوى وبالأيام المذهبة بالأمل.
صحيحٌ أنني كنتُ أتوقع أن تنتهي الحرب قبل العيد، وأنني سأنتقي ثيابا تليق بالعيد، ولكنني لم أفقد الأمل، فما يضير لو صنعنا نحن عيدًا نداوي به جراحاتنا المتفتحة.
خرجت من البيت أرتدي خوفي وقلقي وأملي، وأقنعني أن ثمة ضوءٍ سيبزغ على وجه المخيم، أجل سنصلي العيد، ونحتفل ولو بقدر يسير من الأمل. نمشي بين شوارع المخيم المتشققة، وقد نزلت غيمةُ هدوء على المخيم، قلت لنفسي، لعلها هدنةٌ مؤقتةٌ لأجل العيد!
في صباح العيد نفتقد من نحب، نحصي من غادر الحياة باكراً، نتذكر بقايانا وبقايا منازلنا
نسير وقد تشعبت طرقاتٌ متصدعةٌ أمامنا، فهنا حكايات لا تنتهي.. بيوت متهالكة، باعةُ الكعك، حلوى بيتية خجولة على طاولات الوقت، أراجيح صغيرة انتشرت في الطرقات، ثيابُ تحاول الفرح على أجساد الصغار الغضة. تجمع أهل المخيم بالقرب في ساحةٍ كبيرةٍ تحيط بها الخيام وأكوام الحجارة وبقايا البيوت مختلطةً بأشلاء الأشجار المتآكلة.
يلقي الإمام خطبة العيد، وبينما هو كذلك، دخلت الزنانة اللعينة فجأة، أنظر لوجه جارتنا التي كانت تقنعني أن ثمة هدنة للعيد ستكون اليوم، تنظر لي بقلق كبير، ثم تسأل نفسها :هل حقا هدنة؟ ثم ما تلبث أن تجيب على نفسها وتقول: لا، لا أظن! هذا الطيران لا يشي بهدنة ولا بسكون.. ثم تطرق لحظةً وتقول: هل تعلمين ما الذي سيكون؟ ثم تجيب حائرة: لا أظن أن أحدا يعلم!
كنت أسمعها تسأل وتجيب، بتوتر كبير، لقد كنت مثلها تماما إلا أنني كنت أسمعني من خلالها..
أنهى الإمام صلاته على عجل خشية غارة مفاجئة، فقد كان الطيران الحربي يحلق على ارتفاعات منخفضة لتنفي الإشاعات التي وددنا لو أننا صدقناها، ليتها هدنة على الأقل في أيام العيد..
نظرت حولي، كنت أظنُّ أن المصلين سيتفرقون بعد الصلاة ويتوجهون لبيوتهم، ولكنني تفاجأت بأن الجميع مثلي، تقوده أقدامه للمقبرة، أجل! جميعهم مثلي، ينحدرون إلى المقبرة التي تقطرت فيها أوجاع الشهداء..
صُعقت والجميع نحو المقبرة التي ازدحمت بالأحياء والشهداء على حد السواء، سيداتٌ وأطفالٌ، ورجالٌ وعجائز وفتياتٌ في عمر السكاكر حول قبور أحبتهم يبكون، يتحدثون، لعلهم يكملون القصص المتآكلة، ويرثون أحلاما لم تنضج بعد..
لقد ذبحني السعال، والبارود والدخان ينتشران على رئة البيت، لم تتوقف قهقهة الدخان ولا للحظة
تزدحم المقبرة بأفواجٍ تخرج، ثم بأفواجٍ تجيء. وقفت بجانب قبر خالتي وزوجها وأبنائها وبناتها الذين استشهدوا في شباط/ فبراير الماضي، أحمل بيدي عرق زيتون وحكايات كثيرة، جلستُ بجانبها، أقول لها: اشتقت لك كثيرا، اشتقت لصوتك، اشتقت لوجهك، هل اشتقتِ أنتِ لي أيضا، أريد أن أخبرك أن راما حفيدتك استشهدت في رمضان، هل رأيتها، أريد أن أخبرك أن كثيرا من جيرانك وأحبتك قطفت الطائرات أعناقهم، هل رأيتهم أيضًا، هل ترينني الآن؟ لقد اشتقتك جدًا، واشتقتُ أن أراك ولو للحظةٍ واحدة..
حملت عرق الزيتون غرسته بجانبها، ومضيتُ لنكمل رحلتنا إلى أوجاع أهالي الشهداء، ففي العيد نفتتح صباحنا بصلاة العيد ثم زيارة الشهداء وأهاليهم، لقد اعتدنا على ذلك منذ سنوات، فالعيدُ يسكب الزيت على جراح أهالي الشهداء، ففي صباح العيد نفتقد من نحب، نحصي من غادر الحياة باكراً، نتذكر بقايانا، وبقايا منازلنا التي كانت تمتلئ بأصوات البهجة صباح كل عيد، ها نحن نفتقد كل شيء ونتفقد كل شيء، وليس بوسعنا صنع أي شيء. أتأمل وجه عمي الذي يبتلع دمعته الساخنة ويقول: هذا العام مختلف، هذا العام بلا رمضان وبلا عيد!
لقد فقَد عمي ولديْه ومنزله في يناير الماضي.. وها قد جاءه العيد ليذكر نسيانه ألا يحاول أن ينسى!
انتابنا صمتُ عميق، نحن لم نعد نجيد المواساة أيضًا، فالذي نمر به لا تتسع له لغة.. ابتلعتُ أسئلتي وأجوبتي، ابتعلت ألفاظ المواساة التي كنت أرتبها في ذهني وأنا في طريقي إليه، فماذا عساني أن أقول، وما عساه أن يصنع..
وقبل أن أترشف قهوتي، تمزق الهواء بسبب غارةٍ عنيفةٍ، عرفنا في ما بعد أنها وقعتْ في شمال المخيم..
يبتسم عمي ساخرا ويقول: يرحبون بكم على طريقتهم!
تركتُ فنجان القهوة ويداي ترتجفان، بينما وقف أخي مرتبكا: لنغادر! قبل أن تنهار السقوف حولنا!
وقفتُ بسرعةٍ واعتذرت من عمي الذي ودعته مسرعةً ومضيت بسرعةٍ أقطع طريقي شرقًا باتجاه البيت، كنا نمشي بسرعةٍ، وأخي يحثني قائلا: أسرعي مريم! أسرعي أكثر!
نهرول باتجاه البيت، بينما يتصاعد صوت الاشتباكات الصادرة عن شمال المخيم، لقد تغير حال الطريق، يهرول الصغار لبيوتهم خائفين، فيما ودعت الأراجيح ضحكات الصغار، وسقطت الحلوى الخجولة باكيةً على حواف الانتظار. وما هي إلا لحظاتٌ حتى ارتفعت وتيرة القصف أيضًا، (بالمناسبة أنا أكتب الآن والقذائف المجنونة لا تتوقف) أجل! لقد ارتفعت وتيرة القصف المدفعي من الناحية الشرقية للمخيم ومن الناحية الشمالية، وعلا صوت الاشتباكات العنيفة، لقد فرغت الشوارع تمامًا، حتى المقبرة فرغت قبل أن يكمل الأحياءُ للشهداء تتمة الحكايا، فرغت الأراجيح الصغيرة من أساور الفتيات الملونة، فرغت عربات التجار الصغار من أحلام الحلوى، وهبط على المخيم غبار ثقيل!
اشتد القصف أكثر، بطريقة عشوائية مجنونة، وأخيرا وصلنا إلى البيت، كانت النافذة ما تزال مفتوحةً تشتري العطر من شجرة اللوز، وتكافح ألسنة البارود المتناثر هنا وهناك، يا إلهي! ما زالت حقيبتي مملوءة بقطع الحلوى التي أعددتها للأطفال أمس لأجل العيد، لقد أنساني القصف أن أوزعها على أياديهم الحالمة، نظرتُ للطاولة التي أعددتها صباحًا، وبدأت أجمع الحلوى التي أعددتها أمس، وأنا أتذكر حديث أخي في الصباح: تعدين الحلوى حينما ينتهي العيد وليس الآن، يا إلهي! لقد انتهى العيد فعلا!
هل هكذا تقضي الشعوب أول أيام العيد؟! هل هكذا تحتفل الأمم بالعيد؟ لقد ازداد القصف أكثر؟ وازداد توجّعُ العيد، فلم يؤذن المؤذن للصلوات اليوم، ولم يرفع تكبيرات العيد، وكأن العيد وصل إلى باب مدينتنا ثم التفت وغادر دون أن ينثر الألوان والحلوى على الصغار.
بدأنا كعاداتنا نتحلق حول الراديو، لنستمع للأخبار، لقد ازداد القصف ضراوة مع ارتفاع الظهيرة، فقُصف ما تبقى من مدينة الزهراء، وما هي إلا لحظاتٌ حتى بدأ الجيش الإسرائيلي بنسف مربعات سكنية كاملة شمال النصيرات!
أكتب الآن (10 نيسان/ إبريل، السادسة مساءً والقصف المتجدد لا يتوقف، أكتب الآن وبين كل غارةٍ وأخرى أقل من دقيقتين).
تهاتفني أمي من مصر وصوتها القلق يرتجف: مريم! إذا الوضع خطير، اخرجي أنت وإخوتك من البيت، أنا قلقة جدا عليكم
: القصف بعيد جدًا، لا تقلقي كلنا بخير.
يلتقف أبي الهاتف من يدها ويقول: يا بنتي! أنا خائف عليكم، أنا مريض ومغترب، وقلبي لا يحتمل وجعًا جديدا، اذهبوا لأي مكان آمن أرجوك!
أطرقت قليلا: حسنا يا أبي، سنفعل! المهم لا تقلق، كلنا بخير!
لقد كنت أكذب يا أبي، لم نكن بخير، ولم يكن القصف بعيدا، ولكن أين نذهب؟ فرفح ليست أحسن حالا من النصيرات وهي التي تتلقى تهديدات باقتحامات مباشرة منذ شباط/ فبراير، ودير البلح ليست أحسن حالا منا، فهي مثلنا منذ ساعات الصباح لم يتوقف القصف المدفعي عليها فأين نذهب والقصف والموت في كل مكان، وليس أمامنا خيار سوى بقائنا في بيتنا الكائن على شارع صلاح الدين شمال شرقي النصيرات.
ها أنا أكتب، والقصف المدفعي لا يتوقف، فمنذ الثالثة عصرًا، لم تمر دقيقة واحدة بدون قصف، صفير عميق يلتهم الهواء، ثم ما يلبث أن يقذف الحمم والبارود والزجاج المتطاير في كل مكان. ثم ما تلبث الأحزمة النارية المجنونة أن تثقب كبد السماء بجنون هستيري مخيف!
هي ليست ألعابا نارية احتفالا بالعيد، هي جوقة الموت التي تلتهم كل شيء، أصوات متنوعة، قصف طائرات الأباتشي والإف 16 وطائرات الاستطلاع المختلفة والزنانة والكواد كابتر، وأصوات المدفعية العشوائية التي لم تتوقف، واشتباكات بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، وقنابل إنارة تسكب على سماء المخيم لونها البرتقالي المصفر، ثم ما تلبث أن تمسح البرتقال بأعمدة الدخان التي تنبعث من قنابل الدخان وقنابل الصوت. أوركسترا جهنمية تحتفل بالعيد على طريقتها الخاصة. بينما شظايا الغارات تسقط حولنا، لترتطم بما تبقى من أحلامنا ومنازلنا وبقايا أشلائنا.
يرتفع صوت المذيع، ناقلا الخبر عن إذاعة الجيش الإسرائيلي: الجيش بدأ بعملية عسكرية في ضواحي مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث إن الفرقة 162 بدأت عملية عسكرية مباغتة وسط قطاع غزة، والعملية العسكرية تتم بتوجيه استخباراتي دقيق!
حدّق بي محمد وهو يحاول فهم ما يقوله المذيع: أين نذهب؟
: لا أدري! هل سيجتاحون المخيم؟
يحمل أحمد جواله، ويبدأ بتقليب القنوات الإخبارية على التلغرام، ويقول: تقول يديعوت أحرنوت: العملية في النصيرات تستمر عدة أيام وتستهدف توسيع الممر الفاصل بين شمال القطاع وجنوبه!
: ماذا يعني ذلك أحمد؟
: لا أدري، لكن قد يطول الأمر ويستغرق أيامًا.
وقبل أن ينهي حديثه، يتناثر الركام حولنا، وتثاءب الدخان اللعين في البيت حتى أننا لم نكد نرى بعضنا!
لقد ذبحني السعال، والبارود والدخان ينتشران على رئة البيت، لم تتوقف قهقهة الدخان ولا للحظة، ومع كل غارةٍ كنت أتوجه مسرعةً باتجاه النافذة لأطمئن على أوراق اللوزة الخضراء، فما أن أراها كذلك حتى أطمئن!
مع المغيب، يرتفع صوت صراخ الأطفال، أقترب من النافذة لأرى، فيصرخ بي أخي: توقفي! هذه أصوات طائرة الكواد كابتر، لا تفعلي! إنها تصدر أصوات الأطفال والنساء اللواتي يستغثن، ثم تطلق النار على كل من يفتح نافذة أو باب بيته!
يشغل محمد المذياع، ويقول هامسًا: يارب، ينسحبوا من المخيم!
لكن المذياع أخذنا إلى سياق آخر، فالمذيع يتحدث عن حركة النزوح التي نشطت في المخيم الجديد هربا من الموت، ويتحدث عن تجريف ما تبقى من مدينة الزهراء، وعن قصف بنك فلسطين فيها وتجريفه أيضًا! وعن محو مربعات سكنية كاملة في المخيم الجديد وانهيار ما تبقى من أبراج الصالحي!
كنت ألتقط أنفاسي، وأحاول أن أصدق ما يقوله لي أخي: بعيد والله يا اختي! ان شاء الله بكرة الصبح رح يخلصوا، هي مناورة يومين مش اكثر..
أريد أن أصدق، أجل، لا أريدها أن تطول أكثر، ولكن كل شيء يشي بشيء عظيم.
أكتب والقصف لم يتوقف للحظة واحدة فقط، لقد ازداد الأمر قسوةً، ازداد القصف عشوائية، والظلام الموحش ينسدل حولنا، وشظايا الحجارة التي نسمع تناثرها إزاء قصف أبراج النصيرات بين لحظة وأخرى تشي بأيام صعبة بانتظارنا.. بينما أنا أواصل الكتابة!
يقاطعني أخي قائلا: هل سنخرج من البيت صباحًا؟
: وأين سنذهب؟ القصف المدفعي من شمال المخيم، لا تقلق.
: وماذا إذا باغتونا من الشرق؟
: أنت تعلمين، منطقتنا بلا شبكة اتصالات ولا انترنت ولا حتى ماء، ولا جيران حتى، لم يبق في حارتنا سوى نحن وجارنا فماذا إذا تحاصرنا في المنازل؟ لن يعلم أحدٌ بأمرنا.. لنخرج في الصباح باتجاه المدارس، فإن ساد الأمن عدنا، يوم أو يومان ونعود!
توجعني هذه العبارة، يوم أو يومان ونعود، فجدي الذي غادر قبل ستة وسبعين عامًا قال يومها : يوم أو يومان ونعود!
: سنظل هنا، سننتظر، لعل العيد يعود مرةً أخرى إذا طلع الصباح!
مخيم النصيرات، 10 نيسان/ إبريل 2024