كانت تنظر إلى ذلك المستطيل الذي فَصّلَتهُ نافذتها في الفضاء خارج بيتها. تجلس كلّ يوم حين تفرغ من شغل البيت وتتأمل تلك اللوحة، نافذتها المطلة على الحيّ. قطعة من السماء الزرقاء، مباني الحيّ المقابلة لبيتها، أعمدة الإنارة، شخص أو اثنان يمران. نوافذ مفتوحة تقابلها ويطل من ورائها أشخاص آخرون بالكاد تراهم وقد غطّتهم ظلال غرفهم.
كان الحيّ ساكناً. الجائحة هجمت عليهم كحيوان ضخم ومفترس. كانت تأخذ كل يوم الآلاف من الناس. وكانت المستشفيات قد امتلأت عن آخرها. وبدأ الأطباء يرفضون استقبال المزيد من المرضى. لقد وصل بهم الأمر أنهم أصبحوا يختارون الأصغر سناً لقبول إقامته في المستشفى مقارنة بامرأة أو برَجل مُسنَّين.
خبر كهذا آلمها. آلمها جداً. بينما زوجها لم ينزعج كثيراً. تعامل مع الأمر باستسلام. ماذا بإمكان الجميع أن يفعلوا؟ لم تكن تدرك أنه قد يجيء وقت يختار فيه الأطباء والممرضون بين حياتين...هل قيمة الحياة تتدنى حينما يكون صاحبها شيخاً؟
كانت هي وزوجها متقاعدين من العمل منذ سنوات. أنجبا ابنا واحداً يعيش منذ عشر سنوات في أميركا. لم يرغب في البقاء في إيطاليا معهما. كان يرغب في اكتشاف العالم، في السفر وتعلّم لغة جديدة. وحينما لاحت فرصة الهجرة، انقضّ عليها بسرعة وهاجر. لم يأت لزيارتهما إلا ثلاث مرّات طيلة تلك المدة. كان يقول إنه مشغول جداً. وعَوَّض التواصل الجسدي معهما بإنترنت. كان يتصل بهما عن طريق الواتساب ويحكي معهما بضع دقائق عبر الكاميرا ويسألهما عن صحتهما وأحوالهما. وكان هذا كافياً له.
لم تكن تخرج كثيراً من أجل شراء احتياجاتهما في الأكل وغيره وكانت تفعل ذلك دوماً بصحبة زوجها. في الغالب، كان هو من يفعل ذلك. يخرج مرة واحدة في الأسبوع فيشتري ما يحتاجان إليه خلال تلك المدّة. وحينما يعود إلى البيت، كانا يتعاونان على توضيب الأغراض داخل الثلاجة وفي أدراج أُخرى مخصصة لها.
أمّا المستطيل المفَصَّل على الفضاء خارج البيت، أيْ نافذة غرفة النوم، فكانت تجلس هي قبالتها أغلب الوقت. أصبحت النوافذ والشرفات شريان الحياة بالنسبة لها ولزوجها ولجيرانهما. مضت أربعة أشهر الآن وما زالوا لا يعرفون متى يخرجون من النفق المعتم. كانت رائحة الموت نفّاذة وكانوا يسمعون من وقت لآخر بكاء أو عويلاً في بيت من بيوت الحيّ. عندها يدركون أن الوحش قد افترس ضحايا آخرين. كانت تصلّي للربّ كل يوم وتسأله أن يرحم أبناءه، فلا رحمة تنجّيهم إلا رحمته هو.
هي أيضاً كانت تشعر بالخوف من هذا الوباء الخطير. كانت تستمع للنصائح وتطبّقها بحذافيرها. غسل اليدين عند الدخول إلى المنزل، استعمال المعقم، وضع الكمامة، التباعد الجسدي. وكانت تُذكّر زوجها بالالتزام بذلك دائماً. والواقع أنه كان يخاف عليها أكثر مما يخاف على نفسه لذا لم يكن يهمل احترام التدابير الوقائية أبداً.
أحيانا، كان زوجها يأخذها إلى شرفة الصالون. كان يجر كرسيها المتحرك ويضعها على الشرفة. كان ذلك المكان قد أضحى لجميع سكان الحيّ شاطئ اللقيا في كل بيت. الأصحاب والجيران يُطلِّون جميعا من شرفاتهم ويحكون ويتبادلون أخبار بعضهم البعض ويسألون عن المرضى ويتمنون لهم الشفاء العاجل ويترحمون على الموتى ويتذكرون مناقبهم وأحداثا من حياتهم. ثمّ، يسألون عن عدد المصابين في كل إيطاليا وعدد الموتى وهل من علاج لهذا الفيروس اللعين...؟
هي لم تكن تحب الحديث عن الموت، لكن جارتها التي تسكن في الشقة المجاورة لشقتها كانت سوداوية المزاج ولا تكف عن الكلام عن لعنة الفيروس التي حلّت ببلدهم الحبيب. ماذا فعلنا يا ربّ؟ اغفر لنا يا ربّ.. وكانت تقرأ بعدها مباشرة أدعية من الإنجيل.
أمّا هي فَجُلُّ الوقت تستمع لجيرانها أو تتأملهم بمسحة حزن وحنان وتتمنى ألا يموت أحد آخر وقد فقدوا في هذا الحيّ وحده خمسة عشر جاراً وجارة.
هل يخاف الإنسان من الموت حتى حينما يشيخ؟ هو يعرف أنها النهاية الطبيعية التي ستكلل مسيرة حياته. لكن الارتباط بالحياة يجعل رفض الموت كامناً داخل كل واحد منّا. هكذا كانت تقول لنفسها. وكانت هي وزوجها يحاولان أن يتأقلما مع الحجر الصحي بعدما توقفت نشاطاتهما اليومية بسبب الوباء. كان يلعبان لعبة تشكيل الكلمات من الحروف، أو يلعبان الشطرنج أو يقومان ببعض الرياضة. هي تُحرِّك الجزء العلوي من جسدها كذراعيها وكتفيْها ورأسها، مُتَّبِعة بعض الحركات الرياضية وهو كان يقفز ويجري قليلاً ويُحرِّك أطرافه وهما يستمعان إلى أنغام موسيقى سريعة مبهجة.
وكان أشد ما أزعجها في الأمر كله هو التباعد الجسدي بينهما. قالوا لهما إن التباعد هو الذي يحميكما من الفيروس في ما لو كان أحد منكما مصابا ولا يعلم. وبما أن زوجها هو الذي يخرج كثيرا فقد كان احتمال إصابته واردا. وكان يحاول ألا يلمسها كثيراً، وألا يُقبِّلها. كان يخشى عليها من الوباء.
وفي ذلك اليوم، كانت تجلس قبالة الشرفة وقد أسبغت عليها أشعة الغروب ضياء من الألوان الأرجوانية البنفسجية المشعة المختلطة برمادي هادئ. وتَذكَّرها في ليلتهما الأولى في شهر العسل، على شرفة فندق قديم وساحر بالبندقية.
اقترب منها وهو يحمل كمّامتيهما. ونظرت في عينيه الحانيتين وفَهِمتْ. لَبِسا الكمّامتين ثم انحنى على موضع شفتيها المغطّاتين بالقماش الأزرق الباهت وقَبَّلَها وهو يضمّها إلى صدره.
* كاتبة من الجزائر