حتى الآن ما يزال مفهوم الترجمة في الوسط الثقافي العربي سجين نظرة تقليدية؛ إنه نقل نص من لغة المصدر إلى لغة الهدف، للاستفادة كما يقال عادة من ثمار الثقافات الأجنبية، أو للدلالة كما شاع منذ زمن قريب على أن ثمة تطوّراً ثقافياً مع تزايد كمية الكتب المترجمة، أو حتى لمعرفة العدو كما راج القول زمناً.
وحتى مع ظهور تحوّل على صعيد وظيفة الترجمة والمترجم في سياق الصراع الاجتماعي والسياسي، وبروز مفاهيم مثل الترجمة بصفتها "فعل مقاومة" ودور الترجمة لـ"إحداث تغيير اجتماعي" في بلد مستهدف، ما زالت الترجمة إلى العربية، أو الكتاب المترجم، بعيدة عن أي نوع من أنواع المقاربات التي تشغل بال المثقفين في القارات الأخرى.
هناك، وأقصد الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي والأميركي واللاتيني، وحتى أفريقيا، يبحث عدد من الكتّاب في موضوعات تتراوح بين تقديم تاريخ نقدي للترجمة، وإعادة التفكير في الترجمة، وبين تحليل لمفهوم الترجمة كأداة أيديولوجية أو أداة تغيير أو مقاومة. أي أن الكتاب المترجم باختصار يعد سلاحاً في الأزمنة الحديثة، لا يقل أهمية عن الأسلحة المستخدمة في حرب استعمار المخيلة والوعي بمختلف أنواعها، أو في تحرير المخيلة والوعي.
من السهل دائماً أن يجري تحويل الترجمة إلى أداة غزو
ويكفي ذكر عناوين بضعة كتب تتخذ الترجمة موضوعاً للدلالة على النقلة النوعية التي انتقلها المترجم والكتاب المترجم. ومنها "الترجمة والسلطة" (2002) لعدد من الباحثين عملت على إعداده ونشره ناشطة شهيرة في هذه المضمار من جامعة ماساشوستس الأميركية، ماريا تيموشيكو، وكتاب "خفاء المترجم" (2010) للأكاديمي الأميركي لورنس فينوتي، وكتاب "الترجمة البصرية/السمعية والفعالية" (2018) لـ منى بكر الناشطة في الوسط الأكاديمي البريطاني. ويواكب هذا النشاط مقررات دراسية يضعها أساتذة لطلابهم في مختلف الجامعات الغربية، ولا يتخلف الشرق عن هذا فنجد الأستاذة الهندية المعنية بالدراسات الإنسانية، ميني جاندران، تضع أبحاث الترجمة في صلب اهتماماتها، فتقدم مقرراً دراسياً محوره "الترجمة والمقاومة"، انطلاقاً من "أن المترجم حين يختار نصاً واستراتيجية ترجمة يكون قادراً على القيام بفعلين؛ فعل المقاومة وفعل الهدم".
وبالطبع لا بد من ملاحظة أن دراسات الترجمة في العالم الرأسمالي ليست خالصة لوجه الله تعالى، بل ترتبط بغايات بحث كيفية تحويل الترجمة إلى أداة غزو لإحداث تغيير اجتماعي/ سياسي. إلا أن الساحة الدولية، وخاصة في ظل التعددية القطبية، لم تعد ملكاً حصرياً لقوى الغرب بجناحيه الأوروبي والأميركي، ففي مقابل ما يمكن أن نسميه "هجوم" الكتاب المترجم وقد ارتدى درع محارب صليبي، نجد مقاومة تظهر في أوساط العوالم المعرضة للهجوم. وهناك من يتحرّك ويقاوم بكفاءة، مثل الأستاذة الهندية التي أتينا على ذكرها، ومثل الأستاذة منى بكر ذات الأصول العربية، ولفت نظرنا خلال متابعتنا أستاذاً من الفيليبّين يدعى فيسانتي رفائيل يكتب ويتحدث عن دور اللغة والترجمة في "تصفية استعمار اللسان والمخيلة في وطنه"، ويعني بذلك وقوف المثقفين المحليين في وجه استراتيجيات الهيمنة الثقافية التي تتخذ الكتاب المترجم سلاحاً من بين ما تتخذ من أسلحة، بفعل مضاد يرتكز على إيجاد ترجمات "محرِّرة" من هذه الهيمنة.
دراسات الترجمة في العالم الرأسمالي ليست خالصة لوجه الله
ويذكرنا نشاط هذا الأستاذ الفيليبيني بالمواجهات التي كانت تتم بين عدد من المثقفين العرب واستراتيجيات الهيمنة الأميركية والصهيونية في النصف الثاني من القرن الماضي، وخاصة بأدوات ترجمة الكتب ودفع أجور مغرية لأساتذة عرب كانوا يهرعون للترجمة. والمثال البارز على هذا ترجمات ما تسمى "مؤسسة فرانكلين" التي كانت تروج كتباً الهدف منها تشكيل نخبة ثقافية عربية تكون أداة طيعة لاستعمار الوعي والمخيلة.
ولكن.. أي مراقب لا يمكن أن يُغفل واقعة أن الكتاب المترجم إلى اللغة العربية أياً كانت لغة المصدر لم يخضع لاستراتيجية شبيهة بتلك التي تحدث عنها الأستاذ الفيليبيني، أي لم توضع له استراتيجية "تحرير" كما هو مفترض، لا في سنوات الحرب الباردة التي انفرد فيها الكتاب المترجم، على يد "نخبة" موالية، بعقل القارئ العربي، فحوّله تارة إلى "وجوديّ" لا يرى في الآخر إلا جحيماً، أو إلى مفتون بمسرح "العبث" تارة أخرى، أو إلى عدو لسكان كوكب لا يعرف عنهم شيئاً تقريباً، كما كان حاله مع النظم الاشتراكية.
الأخطر من كل هذا أن الكتاب المترجم إلى اللغة العربية اجتاحته، وما زالت تجتاحه، موجة من الاستهانة والعبث والتزوير قل نظيرها في أي لغة من اللغات. فإذا تركنا جانباً نزعة بعض المترجمين إلى التحكم بالكتاب المترجم وتقديمه بصورة مشوهة للقارئ، كأن يسقط من الترجمة فصولاً بحجة أنها "ليست مما يهم القارئ" العربي، أو كأن يقدّم له مهاجماً كاتبه وأفكاره محاولاً تضليل القارئ، أو يدخل تحريفاً على العنوان، نجد الأخطاء "الثقافية" لا تعدّ ولا تحصى، كأن يترجم أحدهم الثيران الآشورية المجنحة التي يشاهدها أي زائر للمتحف البريطاني تقف على بوابة جناح المعروضات العراقية، إلى "أسود وخنازير مجنحة"! ويقدم لنا اسم الملك "آشور بانيبال" على أنه اسم مكان أو ناحية! وحين تعاد طباعة الكتاب ذاته لا يحدث أي تصحيح.
يشهد الكتاب المترجم إلى العربية استهانة قل نظيرها في لغات أخرى
في الجانب الآخر، نجد احتراماً ووعياً. فالكتاب المترجم فعل "مقاوم" و"محرّر". وهنا من المناسب إضافة فكرة ربما تفسر أو تعلل لماذا كان للكتاب المترجم وجهان بهذه الصفة أو تلك، إضافة يمدنا بها عالَم الفيزياء الحديثة، أو فيزياء الكوانتم كما أصبحت تعرف، وترجمتها إلى العربية هي "فيزياء كمّات الطاقة". في هذا العالم، ووفق تجارب مخبرية يكتشف علماء هذه الفيزياء أنه مثلما للضوء جانبان، جسيمي (متحدِّد) وموجي (غير متحدِّد) ولا يمكن تعريف الضوء إلا بهذين الجانبين، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان، فلديه الوجه الجسيمي والوجه الموجي، أي أن هويته تمتلك ثوابت محدَّدة من جانب، وممكنات غير محدَّدة من جانب آخر. وهذا الجانب الأخير هو الذي يسمح للقراءة والاطلاع عن طريق الكتاب أو غيره، كوسيلتي معرفة، بأن توقظا فيه ممكناته كإنسان، أي جانبه الموجي.
تكتب دانا زوهار، وهي واحدة من الذين اهتموا بالتعريف بهذا الجانب الجديد، "أي عقل يتوقف عن استدخال معلومات جديدة يصبح عتيقاً، وأقل يقظة ووعياً.. العادة والقالب الذهني تهديد ليس لنهجي تجاه الغير فقط، بل لي ولحيوية عقلي". وفي ضوء هذا يمكن القول إن الكتاب المترجم أحد وسائل اتصال الممكن الكامن فينا بالعالم وقدرتنا على التجدّد، أي التخلص من القوالب الذهنية والعادات الفكرية (الجانب الجسيمي) بمعنى منحنا القدرة على التحرر (الجانب الموجي) من وضعيتنا الشبيهة بوضعية الجسيم المحدد بمكان وزمان معينين والعلو كما تعلو الموجة الضوئية على المكان والزمان.
وسبق للفيلسوف الأميركي رتشارد رورتي أن حلل هذا الجانب في الإنسان، وإن بمصطلحات أخرى، حين اعتبر الآداب والفنون وسائل تحقيق استقلالية الشخصية، وتخليصها من قيود التعصب والانحياز، أي تحريرها مما يمكن تسميته في ضوء فيزياء الكوانتم من جانبها الجسيمي. لأن كتباً مثل هذه، غير أيديولوجية، معنية بتعريضنا لأنواع من التجارب الإنسانية، تخاطب الممكن فينا، لا الجانب المتصلب الثابت. وتضع الإنسان، حسب رورتي وعلماء الكوانتم، في وضعية غير محدَّدة، وبذلك تفتح الأفق نحو تطور وتنمية لا حدود لهما في الوضعية الإنسانية. وليس هناك أكثر انفتاحاً على الآفاق من كتب ترحل بنا عبر الأمكنة والأزمنة في الجغرافية الطبيعية والإنسانية على حد سواء.
إطلاق الكوامن في الإنسان هو سبيله إلى النمو والتطور عقلياً، ولا شك في أن للكتاب المترجم دوراً بالغ الأهمية في هذا عرفه القدماء كما عرفه المعاصرون. وما نضيفه الآن هو أن سبب فعالية هذا أساسه خاصية طبيعية، في الطبيعة وظواهرها، مثلما هي في الكائنات الإنسانية، أي وجود الجانبين، الجسيمي والموجي، في الطبيعة من حولنا وفي أنفسنا أيضاً. فهل هذا هو ما أدركه حدساً الفيلسوف ابن سينا حين قال "وفيك انطوى العالم الأكبر"؟ أظن ذلك، بهذا المعنى الذي تشرحه فيزياء الكوانتم التي هي أحدث المعارف العلمية، والتي ما تزال متضمناتها، وهذا أمرٌ مؤسف، بعيدة عن عالم الثقافة العربية حتى الآن.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين