لا يعدو عنوان رواية الكاتبة الكولومبية بيلار كينتانا (1976)، "الكلبة"، كونه إحالة إلى قصدٍ آخر. سُرعان ما يحدس القارئ به، ما إن ينتبه إلى اقتصار الرواية على شخصية واحدة هي داماريس، وزوجها وكلبتها.
عنوان الترجمة الإنكليزية للرواية هو "العاهرة"، والعنوان في الإسبانية "la perra"؛ يبدو مُلتبساً يرمي إلى استخدام مفردة الكلبة، دلالة على الاحتقار بالاستناد إلى ذكورية اللغة. لكن القصد الذي يخاله القارئ من تصدير الرواية، بعنوان بدا أنَّه يُرافق حياة الزوجين، ليس إلّا تفسيراً لعلاقة تجمعهما، خاصّةً عندما يعرف القارئ أنَّ الحظوة التي نالتها الكلبة؛ نالتها بسبب غياب الأطفال عن الزواج. الرواية، بوضوح، ليست عن الكلبة أو عن الزواج المجرَّد؛ بل عن الأمومة غير المتحقّقة.
"الكلبة" ليست الموضوع البتّة، وإنَّما تعبير لغوي للإحالة عليه؛ إذ في تعامُل داماريس مع الكلبة التي كانت تُطلِق عليها اسم "ملكة جمال كولومبيا" عندما كانت صغيرة، وتضعها في حمّالة صدرها، ثمَّ تنتهي بأن تراها دميمة، بعد أن أدركت أنَّ كلبتها أمٌّ سيئة أهملت جراءها وكثيرة الهرب.
مَشاهد تلقائية تُبنَى كي تعرض ارتباط الموت بالجنس
لكن تبقى المعرفة الأخطر التي أودت بحياة الكلبة، هي معرفة داماريس أنَّ كلبتها تحمل للمرّة الثانية. وكأنَّما من هذه المقاربة المؤلمة، ومن الاختزال في الشخصيات والإيجاز في التعبير واللغة، يجد القارئ الإحالة التي تختصر الرواية؛ في السخط الذي ينمو داخل الزوجة سخط ضرورة الأبناء. أمرٌ نجد ما نستدلّ عليهِ من أنَّ الشخصية الرئيسية داماريس تحمل في داخلها آثار سخط مرتبط بالأطفال، تعرَّضت له في نشأتها الأُولى، وقد جُلِدت عدداً من الأيام إلى حين ظهور الطفل الذي كانت سبباً في مقتله، وقد أعاده البحر جثّة مُقشَّرة إلى اليابسة.
الرواية الصادرة حديثاً عن "دار الرافدين"، بترجمة عربية أنجزها عن الإسبانية أحمد محسن، نصٌّ في الأمومة إذاً، لا في الزواج. وحضور الزوج - على أهميته - لا يعدو كونه أداة في يد الزوجة، وبدا أنَّ الزوجة تنتقم منه بعد فشلها في أن تكون أمّاً. وبدا أنَّه يتعاطف معها، ويفهم تقلّباتها في التعامل مع الكلبة التي أحبّتها في البداية، وحقدت عليها في النهاية. وسلوك الزوجة تراوح بين نقيضين، لأنَّها لم تقدر أن تكون أُمّاً بدورها. الزوجة لا ترفض الأمومة بقدر ما ترفض إلحاح أن تكون أمّاً. إنَّها ترفض توقها للأمومة. والفشل في تحقيق الأمومة هو ما يقوله النص، وهو فشلٌ يجد القارئ في أبعاده رفضاً للأحكام التي تقرن المرأة بأمومتها. وكأنَّما حتى في زواجها، لم تعد داماريس التي فشلت في الإنجاب؛ امرأةً، بالمعنى الذي يُطلَق على النساء.
السرد وسلوك الشخصيات ينموان في حيّز نفسيّ خالص، والمَشاهد، على تلقائيتها، تُبنَى كي تَعرض مقولة يرتبط فيها الموت بالجنس. في إحدى مراحل الحكاية، وبعد عشر سنوات عن انقطاع الزوجين، ومع اعتقاد موت الكلبة، أخذا يُعيدان الصلات بين جسديهما، وكلٌّ منهما أعاد اكتشاف الحبّ مع شريكه، وكأنّما كان أعمى عن الحبّ وعن الشريك معاً. اعتقاد موت الكلبة جعلهما يقتربان من بعضهما. شبهات كهذه تجعل القارئ يخال الإحالة التي يرمي إليها العنوان المُلتبس هي الزواج بالفعل. لكن عندما تُعاود الكلبة الظهور على أطراف الغابة، ومع تعاطي داماريس الدائم معها على أنَّها غريمة، انتهاءً بشنقها، وخشيتها معرفة الآخرين لجريمتها، تحسم هذه التفاصيل أمرَ إحالة العنوان. فالنصّ عن احتقار حتميّة الأمومة، حدّاً تصير داماريس - مع فشلها بأن تكون أمّاً - قاتلة، وهو موضوع إشكالي، يأتي إلى العربية في نصّ عنيف وعاطفي في آنٍ واحد، يشرح شقاء الأمومة وشقاء غيابها.
* روائي من سورية