رغم ما يُعانيه المشهد التشكيلي في السودان، من جرّاء حرب الجنرالات المُشتعلة في البلاد منذ الخامس عشر من نيسان/ إبريل الماضي، إلّا أن الكثير من التشكيليّين ما زالوا يُحاولون إيصال صوتهم، والإصرار على الالتقاء بالجمهور. وضمن هذا السياق، يُمكن أن نقرأ معرض "ناجون" الذي يوقّع لوحاته التشكيلي السوداني الشابّ المغيرة عبد الباقي، ويتواصل في "غاليري خُلال" ببورتسودان، شرقي البلاد، حتى الثاني عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.
التقت "العربي الجديد" بعبد الباقي الذي تحدّث عن الموضوعات التي ينطلق منها في أعماله، قائلاً: "جاءت الفكرة من الأوضاع التي نعيش فيها، أنا أرسم مَن حولي، وأُوثّق الأحدث من فترة إلى أُخرى لأني مُهتمّ بقضايا المجتمع والتعايُش السِّلمي، وبدأتُ برسم هذا الحدث الإنساني لأنّي شاهدٌ على الجرائم التي تُرتكب. الحياة أعظم وأنعم ما تكون، ولكنّ الإنسان يُفسدها بالطّمع والظُّلم والجشع. الحرب التي يشهدها السودان، اليوم، قد مسّت الجميع، ولن يسلم منها من ظنّ أنه قد سلم. حتى أنا كواحد من هؤلاء الـ'ناجون'، لم أنجُ منها بالفعل". ويتابع: "أتناول بالرسم التعبيري والخطوط وبساطة التكوين والتلوين ورَسْم الناس، جوانب توثيقية من مشاهد النجاة".
وحول ما تشهده مدينة بورتسودان من بوادر تشكيلية، حيث لجأ إليها الكثير من الفنانين بعد أن تدهور الوضع في الخرطوم. يقول: "لو جاز الحديث عن 'فوائد للحرب'، بالنسبة لهذه المدينة، فستتمثّل في بعض النشاط الذي تشهده الحركة التشكيلية والثقافية فيها، بسبب نزوح الفنّانين إليها باعتبارها محطةً، ومن ثم مغادرة البلاد لاحقاً، وهذا هو الجانب المأساوي لما نُعاينه من 'انتعاش'. هنا يُوجد 'غاليري خُلال'، و'مؤسسة دارس للفنون'، وهذه الأمكنة باتت مزارات فنية جديدة، ومُلتقيات لنقاش الأفكار فظهرت المُبادرات وقيام المعارض وجلسات النقاش، وهذا شيء جيّد 'نسبيّاً'، على اعتبار أن، قبل ذلك، كانت كلّ الفعاليات مُركّزة في الخرطوم. وبالتالي يُمكن اعتبار معرضي جزءاً من الحركة الجديدة في بورتسودان، ودعماً لها".
يندرج المعرض ضمن المشهد الجديد في بورتسودان بوصفها ملاذاً آمناً للفنّانين
كما يلفت عبد الباقي في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ الفنّ التشكيلي لغه بصرية، والفنان في ظلّ الحرب يُعبّر بها وهذا ليس جديداً، فمنذ اندلاع ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، كان لهذا الفنّ ظهورٌ واضح ومُؤثّر، وكذلك هو الحال، اليوم. ويرى أنه سوف يكون هناك اتجاه ملحوظ وجديد بسبب وَضْع الحرب، وتأثيرها على الأسلوب والمعارض في الولايات الآمنة، وقد أُقيمت بالفعل، مؤخّراً، معارض في كوستي والقضارف وكسلا وبورتسودان.
وعن الحدود التي تحصر الحرب موضوعات الفنّ فيها، وتُقيّدها، وإمكانية خروج الفنان عن ذلك الإطار، يقول عبد الباقي لـ"العربي الجديد": "صحيحٌ أنّ الحرب تحدُّ من الموضوعات التي يسعى الفنّانون لتمثيلها في أعمالهم، إلّا أنّ كلّ واحد من هؤلاء يُحاول تناول جزء مختلف منها. عموماً ليس لدينا خيارات كثيرة أمام هذا الحدث الشنيع، فكلّنا شهود عليه، بشكل أو بآخر. ولنفترض أنّ الفنان ابتعد عن هذا الخيار من حيث الأسلوب أو الموضوع، فهل هو منفصل عن موضوع الحرب في واقعه اليومي؟ بالتأكيد لا. في نهاية الأمر، للفنّان حرّية التعبير المُطلقة، إذ يُمكن أن يرسم عن نفسه، لو أراد، أو أيّ اهتمام آخر".
وفي حديثه عن ملامح تشكّل جيل فنّي جديد في البلاد، يقرأ عبد الباقي المشهد من خلال الواقع السياسي الذي فرضته ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018. "جيلُنا، اليوم، يُمارس فكرَه بحرّية حتى على مستوى الموضوعات فما حدث في ثورة ديسمبر يُمكن لنا أن نصفه بـ'ثورة فنية' حضرت فيها الجدارية بقوّة، وتوسَّع تقبُّل المجتمع للفنّان. الموضوعاتُ، اليوم، ليست ذات طابع مُحدّد، كما أصبحت المفاهيم الجديدة أكثر رسوخاً وانتشاراً، وهذا لا ينفصل عمّا تحدّثتُ عنه آنفاً حول المعارض وصالات العرض الجديدة وجلسات النقاش التي نخوضها".
ويختم: "كان تأثُّر الأجيال السابقة بموضوع التراث والهوية يحدُّ من موضوعات الرسم عند الفنّانين، كما طبع أسلوب 'مدرسة الخرطوم' الأغلبية بطابعه، إلى جانب انفصال الفنّانين عن المجتمع وعدم تقبّله لهم، كلّ ذلك قد تغيّر اليوم".