كيف يُمكن أن نروي تاريخ المكتبات العُثمانية، ونُجمِل قصة تطوُّرها وتنظيمها في كتابٍ واحد، خاصة أنّنا أمام مساحة زمنية واسعة من تاريخ هذه "الصناعة"، إن جاز التعبير، تمتدّ من القرن الرابع عشر، وصولاً إلى القرن العشرين؟ هذا ما يُحاول المؤرِّخ التركي إسماعيل أورنصال (1945) الإجابة عنه، من خلال كتابه "المكتبات في الدولة العثمانية: تطوّرها التاريخي وإدارتها وتنظيمها"، الذي تصدر طبعتُه العربية هذه الأيام، في 800 صفحة، عن "أركان للدراسات والأبحاث والنشر"، بتوقيع المُترجِم: أحمد عبدالله نجم.
يُشكِّل الكتاب حصيلة جهدٍ بحثيّ استمرّ ثلاثين عاماً، قام خلالها الباحث بمَسح جميع التصانيف المُتاحة للقراءة والاطّلاع في أرشيف رئاسة الوزراء العثماني، كما اطّلع على جميع صُور الوقفيّات الموجودة في مديرية الأوقاف العامة، إضافةً إلى العمل في المكتبات المتنوّعة التي جمع مادّته البحثية منها عبر العمل الميداني. ويزيد من أهمية هذا الكتاب، عدم وجود دراسة مستقلّة قبله، في موضوع المكتبات العثمانية.
دحضٌ لمقولة إن المجتمع العثماني لم يهتمّ بالحياة الفكرية
ومن الجوانب التي يُضيئُها العمل، السعيُ المُبكّر في المُجتمع العثماني لإنشاء المكتبات وتنظيم العمل فيها؛ خدمةً للعِلم ونشراً لثقافة الكتاب. ولعلّ أبرز الإشكاليات التي يتصدّى لها، تتمثّل في فكرة أنّ المُجتمع العثماني لم يُولِ الحياة الفكرية أو العِلمية أولوية، ولم يتلمّس وسائل نشرها، عبر تاريخه الطويل، أو وفق شروط عصره وظروفه. وهو الرأي الذي ما زالت أصداؤه تتردّد حتى اليوم، والذي تأسّس اعتماداً على بعض المصادر الاستشراقية، وخاصة في عصر التنافُس الاستعماري، أي القرن التاسع عشر وما بعده. بل إنّ هذه المقولة، والتي وجدت من يتبنّاها في الحواضن العربية - فقط لأنها غربيّة المصدر - لم تعتمد أساساً على التاريخ المكتوب بمصادره التركية، وبالتالي بقيت مجرّد موقف أيديولوجي.
يحتوي الجزء الأول من الكتاب، والذي عنونه بـ"التطوير التاريخي لمكتبات الأوقاف العثمانية"، على خمسة فصول، تتناول موضوعات حول نشأة المكتبات العثمانية المبكّرة في عصر التأسيس، ومكتبات الكلّيات والجوامع التي تطوّرت لاحقاً، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلى مكتبات جامعية مستقلّة وكبيرة، ومن ثم يتطرّق إلى توسيع وإعادة تنظيم نظام المكتبات العثمانية، وصولاً إلى المكتبات التأسيسية في عصر الإصلاحات (1839 - 1922). كما يلفت الباحث إلى أنّه تمّ إنشاء المكتبات العثمانية في البداية، بوصفها مؤسّسات خيرية، ما يعني أنه قد أُفرِدَت لها مِنحٌ ثابتة ونفقة خاصة لإعمارها، أو تحسينها وتوسيعها لاحقاً.
أمّا الجزء الثاني فتدور فصوله حول "تشكيلات مكتبات الأوقاف"، وتتناول موضوعات ذات شأن تنظيمي وإداري أكثر، مثل وضعيّة المُوظّفين، وإمكانية عزلهم أو ترقيتهم، وعلى أيّ أساس تُعطى لهم المُرتّبات والأُجور، وكذلك يتطرّق إلى الكيفية التي يتوزّعون فيها على وظائفهم، حيث يُميّز بين الناظر والمتُولّي وحافظ الكتب، بالإضافة إلى الخطّاطين والمُجلِّدين، الذين يلعبون دوراً رئيسياً في هذه المؤسّسات. قبل أن يتعدّى المهن التي يكون أصحابُها على تواصل قريب من الكتب، إلى آخرين يعملون على صيانة المباني والمكتبات، كالفرّاشين وعُمّال البِناء، وهي فئات لا يُلتفت إليها عادةً ضمن هذا السياق.
يُذكر أنّ أورنصال حاصل على دكتوراه من "جامعة إدنبره" عام 1977، ليتولّى بعدها التدريس في قسم المكتبات بجامعات تركية مختلفة مثل "إسطنبول" و"مرمرة". كما شغل، في مراحل سابقة من مسيرته الأكاديمية، عضوية الهيئة العِلمية لـ"مجمع التاريخ التركي"، ولـ"مجمع اللغة التركية"، وصدرت له عشرات المؤلّفات حول تاريخ المكتبات العثمانية، فضلاً عمّا نشره من مقالات ودراسات في الدوريّات العِلمية والمُختصّة.