يجد كثير من النقّاد أن النافذة تصلح لتصوير العلاقة بين الروائي والعالم، فالروائي يقف وراء النافذة ويرى العالم الذي سوف يمثل على الورق في الرواية. كيف يرى العالم؟ هذا هو الموقف الذي يبدأ منه التباين والاختلاف بين الروائي وبين مَن يقرأ روايته.
كان النقد منحازاً باستمرار، على الرغم من أن كلّ نظرية نقدية كانت تدّعي، ولا تزال، أنها موضوعية تماماً، غير منحازة إلّا إلى النوع الأدبي وحده، وبعض النظريات كانت تدّعي الحياد التامّ في الانقسامات الفكرية الكبرى. سوف نرى أن المواقف تشتدّ وتزداد تعقيداً في المجتمعات التي تشهد انقسامات كبرى في النظرة إلى المصائر المشتركة، وأكثر ما يظهر هذا، في ما ننشغل به، في حقل النقد الأدبي. إذ يظهر في إحجام النقد عن القيام بمهامّه كنقد، وتسجيل انحيازه إلى أحد الأطراف المتنازعة.
وبسبب رغبة النقد في التدخّل الفكري، فإن ما نراه هو تراجع النقد الجمالي التطبيقي إلى الحدود الدنيا، كي يبقى القول أو الخطاب هو الأساس الذي يرغب النقد بمستوياته المتعدّدة، أي الأكاديمي والصحافي، بالشغل عليه. وهنا يظهر الانحياز السياسي شديد الوضوح. أي أن الادّعاء الفكري يظهر في صورة موقف سياسي.
التجاهل النقدي للآخر يضعه في الظلّ، بل في اللاوجود
ويزداد الموقف وضوحاً في الحالة السورية. وتمكن رؤية آثاره في كلّ المجالات التي يعمل بها النقّاد في هذا الحقل الأدبي، إذ تنسحب الجامعة والنقد الجامعي تماماً من أي اشتباك، وفي أي درجة كانت، مع الأدب الذي يمكن أن يظنّ، مجرّد ظنّ، أنه ينتمي إلى المعارضة، أو إلى أي موقف انتقاديّ تجاه السلطة. تُمنع الرسائل الجامعية في هذه الحالة من الاقتراب، أو يزداد حذر الطلاب والمشرفين من الأدب كلّه، ومن الرواية والروائيين، ومن الشعراء والمسرحيين والنقّاد في الطرف الآخر. واللافت أن الموقف لا يهتمّ في معظم الأحيان بالقول، بل بالقائل، إذ يُعتبر القول ضمناً أنه ملحق بالقائل، وهنا يضطرّ الناقد لإلغاء الكثير من أدواته النقدية ومصطلحاته كي يستطيع أن يُقنع نفسه بأن امتناعه عن القيام بمهامّه النقدية صحيح عِلمياً. فتجاهل الآخر وإنتاجِه يضعه في الظلّ، بل في اللاوجود، إذ يفترض النقد الجامعي أن كلّ الكتلة الأُخرى من الاتّجاه المعارض غير موجودة.
غير أن النقد الآخر غير الأكاديمي غائب أيضاً، ومن بين النقّاد السوريين لن تجد ناقداً واحداً يقرأ رواية لأي روائي سوري آخر يُحسب على المعارضة. ليس بوسعي تعداد أسماء الروائيين هنا، فهم كثيرون في الحقيقة، وحاضرون في الرواية العربية، ولكنّهم مغيبون عن أيّة إشارة أو تناول نقدي سوري. ولن تجد أيضاً ناقداً آخرَ من المعارضة يمكن أن يقدّم مطالعة نقدية لرواية أو لشعر أو لقصّة لكاتب محسوب على الولاء للسلطة، فهم يعملون في نطاق الإلغاء أو التجاهل للرواية الأخرى التي تقدّم سردية مخالفة.
قال أحدهم إن هذه المواقف تشير إلى نوع من الهدنة الصامتة، أو إلى انتظار ما سيقرّره المستقبل، غير أن الهدنة كانت في أغلب الأحيان تحضيراً للحرب، لا انتظاراً لسلام قادم.
* روائي من سورية