يركّز أستاذ علم الاجتماع والباحث الفلسطيني بلال عوض سلامة، في كتابه "في معنى الأرض – استعادة الذات الفلسطينية"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، على مسألة الأرض وأهمّيتها لدى الفلسطينيين، باعتبارها القاعدة الإنتاجية التي فقدوها بالتطهير العرقي في عام 1948، والقيمة المعنوية والرمزية والثقافية لكرامتهم، وكيف أن الفلسطيني فقد القدرة على إعادة إنتاج ذاته ومصيره ومستقبله بفقدانه شروط إنتاجه، فاستعاض عن الأرض بالمنظومة القيَمية والثقافية والرمزية والاجتماعية التي ساعدته في مراحل عدة في الصمود والنضال.
في الفصل الأول "في معنى الأرض وقيمتها للمستعمر"، يقول سلامة إنه حين تُستعمَر الأرض وتُستَلَب، "يُستعمَر في الوقت نفسه جزء من الحياة، إن لم نقل الحياة كلّها، بما يعنيه ذلك من مصادرة أشكال الحياة كافة؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للشعوب الأصلية. واستعمار الأرض يعني أيضاً الاستيلاء والاستلاب كبنية نفسية وجسدية للشعوب الأصلية. فاحتلال الأرض يتزامن مع احتلال عقول المستعمَرين وأجسادهم، بمعنى السياسة البيولوجية/ الحيوية والسلطة السيادية".
السيطرة على الأرض بالنسبة إلى الفلسطيني من حيث الحيازة والاستخدام هي سيرورته وكينونته
ويرى المؤلّف في الفصل الثاني "الأرض الفلسطينية كقيمة ووجود"، أن الأرض تُعدّ القضية المركزية التي تشكل العصب الأساسي في حياه الشعب الفلسطيني ومصيره في الماضي والحاضر والمستقبل، "فتشابك وشائج هذه العلاقة بين الفلسطيني كشعب والأرض باعتبارها تضمن الحياة، فحدود هذا المعنى لها يتجاوز وجوده الفيزيقي المادي البحت، ولا تقتصر هذه العلاقة على حيزه الجغرافي، بل تأتي أهميتها من كونها حاملة الأبعاد الحضارية والثقافية والرمزية والاقتصادية والكيانية للوجود الإنساني للفلسطيني. فالسيطرة على الأرض بالنسبة إلى الفلسطيني من حيث الحيازة والاستخدام هي سيرورته وكينونته".
في الفصل الثالث "ممارسات السيطرة على الأرض والإنسان الفلسطيني"، يعالج سلامة ممارسات السيطرة والهيمنة ضد الفلسطيني، ويتعامل معها باعتبارها مجموعة من الأفعال والأدوات والوسائل والقوانين؛ باعتبارها منظومة بنيوية استعمارية تهدف إلى السيطرة والهيمنة في هندستها الأرض والفلسطيني وصوغهما عبر قرن من الصراع والتفكيك. ويذهب المؤلف إلى أن إفراغ الأرض الفلسطينية من سكانها هدف جوهري في عقيدة الحركة الصهيونية، ومن أجل تحقيق أهدافها لجأت هذه الحركة إلى تكتيكات مختلفة، "فلم يكن العنف المباشر هو الوسيلة الوحيدة، بل إلى جانب ذلك استخدمت طرائق عدة من نشر الشائعات بين السكان الفلسطينيين كحرب نفسية تدبّ الرعب والخوف بين صفوفهم، وهو ما يعيدنا إلى الاستراتيجية نفسها التي استخدمها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حين قال أحد الجنرالات: ’إن الذعر... سيرغمهم على الخضوع‘" [...] لهذا، يفهم من تعميم مشاهد القتل والتعذيب أيضًا والإعلان عنها تدمير القاعدة الوجودية للإنسان بصيغة الجمع، الذي ما زال في قيد الحياة"؛ فالاستيلاء على الأرض هو الاستيلاء عليها بصفتها قاعدة تنتج الهوية والكيانية والوجود، "ونتعامل مع الأرض هنا باعتبارها بيئة نفسية وجسدية بمعنى جيوبويتيكس (Geopoetics)، لأن الفصل بين الفلسطيني والأرض يحقق فصلًا عاطفيًّا عن المكان".
يسأل سلامة في الفصل الرابع "نحو استعادة الذات الفلسطينية بالعودة إلى ثقافة الأرض": هل تشكل الأرض ثقافة منيعة للفلسطيني؟ وهل تكون معالجة مفهوم الثقافة الفلسطينية الذي تعزز صموده، أو حتى تقود إلى سباته الاستعماري ضمن السياق الاستعماري والمتمحور حول الأرض والاستلاب والتحرر؟ وهل الالتزام تجاه الأرض باعتبارها بنية فوقية في النضال يجعله ملتزمًا في شريحة، أطلق عليها مسمى "المثقف الفلاح"، بغض النظر عن بنيته الفلاحية أو المدينية أو البدوية التي أنتجته ويعيد إنتاج نفسه وفقًا لها؟ وتقوده هذه الأسئلة إلى النحت المفاهيمي والنقد النظري للقوالب الجاهزة للخروج باستخلاصات ملتزمة، "تحاول جاهدة توضيح معالم الطريق لاستعادة الذات الفلسطينية المقاومة، ضمن مشروع تحرري في ميدانَي الثقافة والعودة إلى الأرض، باعتبارهما الحلقة الأهم في صراعنا مع الاستعمار الصهيوني، انطلاقًا من الدفاع عن ثقافة الفلاح، بما ينطلي على منظومة وقيم وارتباط وانتماء وفداء وهوية وتضحية وكرامة وعقل جمعي وذاكرة محلية وجمعية".
في الفصل الخامس، "الذات الفاعلة والتنمية بالكرامة"، يؤكد سلامة أن متتبع المشهد الفلسطيني يستطيع إدراك أنه لا يمكن تحقيق تنمية فلسطينية في ظل الاستعمار الصهيوني ما لم تُعَالَج السياقات التنموية بوصفها جبهة رئيسة من ميادين الاستقلال والتحرر؛ "لأن الاستعمار قائم على تدمير القدرات الإنتاجية والاقتصادية للمجتمعات المستعمَرة، ويسعى إلى رسملة علاقاته الإنتاجية التي تلحق البؤس بالأغلبية وتحرمها الأمن، وتجعلها تابعة للسوق الاستعمارية بعدما عُزِلَت بمحتشدات منعزلة، للسيطرة عليها وعلى مستقبلها".
يضيف المؤلّف: "تكون التوجّهات التنموية هادفة إلى الانعتاق من التبعية لاقتصاد الاستعمار الصهيوني، والسيادة على الغذاء، والسيادة على الأرض أولًا وقبل كل شيء، تحت عنوان ’التنمية بالكرامة‘ التي تعزز قيمة الفلسطيني ومنعته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من خلال تبديل التوجهات التنموية من الخارج نحو الداخل، وسد الاحتياجات الرئيسية للمجتمع الفلسطيني، وتحديد الأولويات في ضوء اقتصاد الاكتفاء الذاتي بزراعة الحبوب والقمح والأساسيات واللزوميات، لا من أجل تصدير سلع أو منتجات زراعية كمالية كالزهور والفراولة. إن عنوان ’التنمية بالكرامة‘ هو ما يشير إليه جورج كرزم بالسيادة الفعلية على الغذاء، والذي عنى به ’الاقتصاد الوطني الشعبي المقاوم الذي يوفر مقومات الصمود الاقتصادي والمعيشي الضروري لمواجهة الاحتلال‘".