بيير روزانفالون.. الشعبوية بوصفها جزءاً من تاريخ الديمقراطية

19 يناير 2023
جاكسون بولوك/ الولايات المتحدة
+ الخط -

"قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد" عنوان النسخة العربية من كتاب المؤرّخ وأستاذ علم الاجتماع الفرنسي بيير روزانفالون، الذي صدر حديثًا عن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بترجمة الباحث التونسي محمد الرحموني.

ينطلق الكتاب من حرص مؤلّفه على أن تُؤخَذ الشعبوية على محمل الجد، وفق بيان المركز، فهي ليست ابتداعًا دكتاتوريًا، بل جزء من تاريخ الديمقراطية بوصفها مشروعًا دشّنته الحداثة. لذلك فإن لها نظرية وتاريخًا، حيث ترتكز الشعبوية نظرياً على جملة من المبادئ السياسية والاقتصادية والثقافية المترابطة والمتضافرة، تتلخّص جملتها في القطيعة مع المفاهيم السوسيولوجية الشائعة عن الشعب، ومن ثم اعتباره كتلة واحدة في مواجهة الحكام المستبدين؛ وفي القطيعة مع الديمقراطية التمثيلية واستبدالها بالديمقراطية الآنية والمباشرة (الاستفتاء) وبزعيم يجسّد الشعب (الرجل ـ الأُمة)؛ وفي سياسة حمائية تحمي الاقتصاد والمجتمع من شرور العولمة الاقتصادية ومن المهاجرين.

تتلخّص الشعبوية في القطيعة مع المفاهيم السوسيولوجية الشائعة عن الشعب، ومع الديمقراطية التمثيلية

وعلى المستوى التاريخي، يرى المؤلّف أن أميركا اللاتينية شكّلت ــ منذ النصف الأوّل من القرن العشرين ــ "بؤرة" الشعبوية ومخبرها، رغم أن الولايات المتّحدة الأميركية وروسيا وفرنسا قد عرفت "ممارسات" شعبوية قبل ذلك بكثير. ولمّا كانت الشعبوية محاولة لتجاوز أعطاب الديمقراطية، فقد أخضعها الكتاب للتشريح والنقد مبيّنًا خطورتها وعبثية المبادئ التي تحملها، واقترح حلولًا بديلة أكثر واقعية ونجاعة تتلخص في ما سمّاه "الديمقراطية المطّردة".

ويوضّح روزانفالون بأن الحركات الشعبوية تسعى إلى جعلِ عملية استحضار الشعب الواحد الذي جرى تغييبه أمرًا ملموسًا، فهو المرجعية التي لم تكن في ما سبق سوى "مدلول مُلتَبس"، أو ربما هو "مدلول بلا دلالة"، حسب إرنستو لاكلو. إنّ هذه الطريقة في "بناء الشعب" تطرح الكثير من الأسئلة، ولها الفضل في التقليص من حدةّ الشرخ بين الشعب باعتباره جسمًا مدنيًّا والشعب المجتمع، أو على الأقل التقليص من حدّة التوتّر بينهما. يتطابق هذان الشعبان مع عملية جمع الحكومات ومختلف أنواع النخب والأوليغارشيا في صنف واحد، كأن تُعتَبر مثلًا كلّها طائفةً. وبهذا فإنّ عملية تنشيط الديمقراطية وتحسين ظروف العيش يرتبطان في المنظور الشعبوي بالعزل المتزامن لهذه المجموعة الصغيرة المتكتّلة والمعادية للشعب، وبذلك يتداخل النضال الاجتماعي والمواجهة السياسية، وهذا سرّ قوة هذه الرؤية الشعبوية.

غلاف الكتاب

ويشير الكتاب إلى إنّ للتصوّر الشعبوي للديمقراطية ثلاثَ خصائص؛ إذ يسعى في المقام الأوّل لإعطاء الأولوية للديمقراطية المباشرة، وذلك بالدعوة خاصّةً إلى تكثيف الاستفتاءات التي تكون بمبادرة شعبية. وفي المقام الثاني يدافع عن مشروعٍ لإرساء ديمقراطية استقطابية منتقدًا الطابع غير الديمقراطي للهيئات غير المنتخبة وللمحاكم الدستورية. وأخيرًا يُشيد بالتعبير الشعبي الآني والعفوي.

كما يبيّن أن الشعبوية تُعلي من شأن الشعب الواحد وتعزّز هذا الإعلاء بعدائها للنخب وللأوليغارشيات، ومن هنا نفهم رفضُ الشعبويين للحزب بصفته شكلًا تنظيميًا؛ إذ يجري تشبيهه بالأجهزة المنفصلة عن الواقع وبماكينات بيع الكلام. من هنا نفهم اختيار الشعبويين نوعًا مختلفًا من التنظُّم السياسي: أي الحراك. وعلاوة على ادّعائهم أنهم يضخّون دماءً جديدة في الحياة العامّة، فإنّ الحركات الشعبوية تتميّز عن الأحزاب تميّزًا بنيويًّا؛ ففي حين يكون القصد من تأسيس الأحزاب أن تكون تعبيرًا منظّمًا عن مجموعات مخصوصة اجتماعيًّا أو مناطقيًّا أو أيديولوجيًّا، فإنّ الحراك يزعم أنّه يجمّع كلّ المجتمع.

لكنّ هذا الخطاب الاتّهامي لا يكفي لسدّ الخلل التمثيلي الذي يسم الديمقراطيات المعاصرة، بحسب الكتاب، ومن هنا برز دور القائد ليجعل هذا الخطاب منسجمًا وذا دلالة. وقد جسّدت الشعبوية الأميركية اللاتينية، منذ أواسط القرن العشرين، هذا البعد المكوِّن للشعبويات الراهنة أيّما تجسيد. والأمر ليس مستغربًا، فقد ظهرت هذه الشعبوية في بلدان قليلة التصنيع، ولم تكن مجتمعاتها مهيكلة في طبقات ولا هي عرفت أشكالًا من الإقطاعيات الزراعية والأوليغارشية، ولذلك فإنّ التعارض بين الشعب والنخبة هو أكثر التعارضات وضوحًا لدى عدد كبير من المواطنين، وفي هذا السياق برزت موضوعة الرجل الأمة.

المساهمون