يبدو العنوان قليل الجاذبية، في ظلّ الاستخدام المُفرط لكلّ ما هو مُضادّ لها: الانكسار واليأس وغياب الأمن، والغلاء الفاحش، وتدمير الحياة، في فضاء العرب جميعاً، حتى أنّ شاعراً مثل أمل دنقل تجرّأ وكتب يقول على لسان الثائر الأكثر شُهرة في التاريخ سبارتاكوس (ديوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة")، واللافت أنّه يُعنون القصيدة بـ"كلمات سبارتاكوس الأخيرة": "ليس ثمَّ من مفرّ/ لا تحلموا بعالَم سعيد: فخلف كلّ قيصر يموت/ قيصرٌ جديد/ وخلف كلّ ثائر يموت/ أحزانٌ بلا جدوى/ ودمعة سُدى".
والمسألة هي أنّ كثيراً من الحقيقة تظهر خلف الكلمات، وأنّ الصورة القاتمة الحالية هي تلك التي تُجسّدها كلماتُه، إذ تكاد تكون هذه هي الصورة التي ترسّخت واستقرّت في أذهان الناس بعد الفشل الذي مُنيت به الثورات العربية. التجربة العربية في هذا المجال مريرة وفاجعة حقّاً، وقد تمكّن النظام العربي من إعادة إنتاج نفسه، بعد انهيار سلطة الاستبداد في تونس ومصر، وقد بدا أشدّ قسوة وعنفاً ومهارة في استخدام أساليب قمع الناس، وإسكاتهم، وتجريدهم من المعاني المُمتلئة بالأمنيات والأحلام بالحياة الفضلى.
غير أنّ الكلمة ظلّت تحتفظ دائماً بقُدرة استثنائية على البقاء في الأرض الأُخرى، أي أرض الناس. الناس الذين عانوا كثيراً وطويلاً من غيابها. واللافت في التجربة العامّة للبشر هو أنّهم ينسون ما يُمكن أن يكون قد قاله الشعراء والكُتّاب مثلاً، وبالقدر نفسه ينسون أدوات قمع السلطة: تختفي السجون، والعصي والبنادق وأدوات القتل الأُخرى، ويحلُّ الأمل محلّها؛ بحيث تبدو الهبّات التي يُكرّرها الناس سلسلةً لانهائية من تجديد الأمل، مثلها مثل سلسلة القمع والاستبداد التي لا تنتهي من الحياة البشرية.
الساحة.. كلمةٌ عظيمة ما زالت تُرافق البشر منذ فجر تاريخ القمع
ولذلك فإنّ انتفاضات الناس تُعيد تعبئة الكلمات والعبارات من جديد، بالمعنى الأصلي ذاته، أو تحقنها بمعانٍ جديدة مُستمدّة من تحرُّكهم هُم، لا من المعجم. وبالضرورة فإنّ انتفاضة الثائرين اليوم في مدينة مثل السويداء تفعل مثل ذلك. سوف ترى إذا ما قابلتَ السوريّين في المدن الأُخرى كيف يستطيع متظاهرون في مدينة أطراف، ليست بالضرورة من المدن السورية الكبرى، إعادة الأمل مرّة أُخرى إلى الواجهة.
الحقيقة هي أنّنا لا نملك كلمة ثانية أكثر قُدرة على التعبير عن اندفاع المُشاركين رجالاً ونساءً وشابّاتٍ وشباناً من هذه الكلمة. ولهذا فإنّ "الساحة"، كما يُريد المتظاهرون تسمية المكان الذي يجتمعون فيه، وهم يُطلقون عشرات الشعارات التي قد تتناقض أحياناً في ما بينها، ريثما يستطيعون ذات يوم أن يجدوا ما يجمعهم، لا تستعيد الأمل وحده، بل تُعيد حقن الناس، داخل الساحة وخارجها خصوصاً، في الشارع، وفي البيوت الصامتة التي قد لا تلقى أحياناً ترحيباً من ذوي الأصوات العالية بين المُتظاهرين أنفسهم، بكلّ المُعطيات التي تولّدها تلك الكلمة العظيمة التي تُرافق البشر منذ فجر تاريخ القمع، حتى تحلّ تلك اللحظة التي "ستمتلئ الأرض بعدها عدلاً بعد أن امتلأت، وأكثرت في الامتلاء، جوراً".
* روائي من سورية