تحوّلات بيروت.. من مدينة الطباعة إلى الكتب المستعملة

05 سبتمبر 2023
تتفاوت الأسعار بين الشاري والبائع (العربي الجديد)
+ الخط -

منذ أواخر العام 2019، بالتزامن مع بدء انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، تناقصت القدرة الشرائية للمواطنين اللبنانيين والمقيمين في لبنان، الأمر الذي جعل هؤلاء يهتمّون بتأمين حاجات الحياة الأساسية فقط؛ ما أدّى إلى تراجع الإقبال على ما اصطُلح على تسميته بـ"الكماليات"، التي تشمل في بلاد الأزمات كلَّ ما لا يُبقي على قيد الحياة بالمعنى الحرفيّ الضيّق، ومن أبرز هذه الأشياء الكتاب، الذي اشتُهرت بيروت على مدى عقود بأنّها مدينة صناعته، كما عُرفت بفضل ذلك بلقب "مطبعة العرب".

ولأنَّ الحلول لا بُدَّ أن توجد حتّى في الأزمات، بل إنّ للأزمات حلولها الخاصّة المتولّدة من ظروفها، ازدادت في السنوات الثلاث الأخيرة مكتبات الكُتب المستعملة بشكلٍ ملحوظ. أصحابها من صغار التُجّار، والقرّاء كذلك، الذين استفادوا من الفضاء الإلكتروني لتسويق بضاعتهم مهما كانت قليلة، والبعض منهم عزّز مكتبته الخاصة بمكتبات بيتيّة لأشخاص رحلوا فباع ذووهم كتبهم، أو اضطرّوا لبيعها تحت ضغط الغلاء، وتأخّر الرواتب لفترة طويلة. 

مخزون عُمر كامل

بهذه الطريقة بدأ محمد فرحات تجارته، التي تتّخذ من وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للوصول إلى الناس، ويتمّ إيصال ما يشترونه من العناوين المعروضة في الصور عبر شركة توصيل يتعاقد معها، أينما كانوا داخل لبنان. 

لكنّ الاحتكاك المباشر الأول لمحمد مع القرّاء حصل في "معرض بيروت للكتاب" العام الماضي، وتحديداً في الدورة التي أقيمت في شهر آذار/ مارس، حيث كان يبيع الكتاب الواحد شبه الجديد بدولار واحد فقط، ما عرّف به قراءً جدداً. يقول محمد لـ "العربي الجديد" عن بداياته وعن مشاركته هذه: "اشتريتُ مكتبة خاصّة بسعر مقبول، وكان لديَّ كمية كبيرة أردتُ بيعها. يميلُ القارئ إلى الحصول على كتاب جيد بسعر مقبول"، لكنّه يشير إلى أنّ تلك الفترة "كانت حالة خاصّة من الصعب أن تتكرّر".

"مكتبة كتابي" ببيروت (العربي الجديد)
"مكتبة كتابي" ببيروت (العربي الجديد)

تأثير الأزمات يبدو واضحاً أكثر ما يكون في حالة إياد خبّازه، الذي يصحّ في حالته الحديث عن تأثير الكارثة. فالرجل الناجي من انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب / أغسطس 2020، خسر معرضه في منطقة مار مخايل التي يفصلها عن المرفأ الطريق السريع فقط، بكامل معروضاته من الأنتيكات وثريّات الكريستال ومجموعات المفروشات القديمة، ليُضطرّ بعد ذلك إلى "البدء ببيع كتب مكتبتي الشخصية، التي كان عددها يناهز 1700 كتاب، للحصول على مالٍ للعيش اليومي"، يقول لـ"العربي الجديد".

مكتبات الكُتب المستعملة كبديلٍ عن مكتبات الكتب الجديدة

يسرد إياد الجالس وحيداً في مكتبته الجديدة في شارع أنطون الجميّل، المتفرّع من شارع الحمرا الرئيسي، تأثير الأزمات السياسية في لبنان على أعماله، وتنقّلاته الكثيرة بسببها؛ من التفجير الذي أدّى إلى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في العام 2005، إلى الاعتصامات في وسط بيروت المطالبة باستقالة الحكومة، وصولاً إلى الحراك الشعبي في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلى أن قرّر قبل عامين استئجار محل يعرض فيه الكتب التي بدأ يشتريها كما يقول لـ "العربي الجديد": "ممّن أجبروا على الانتقال من بيوتهم ذات الإيجارات القديمة والزهيدة بسبب ترميمها بعد الانفجار، واستصعبوا نقل مكتباتهم الضخمة معهم، ومن الذين قرّروا الهجرة من غير رجعة، وكذلك من المكتبات الموجودة خارج بيروت والتي أقفلت بسبب قلّة الإقبال عليها"، فبدأت مكتبة "كتابي 2021" - التي سبقَ افتتاحها عدد من المشاركات في معارض محلية - تعرض في عطل نهايات الأسبوع داخل بيروت وفي ضواحيها، اشترى خلالها إياد من الكتب أكثر ممّا باع، موسِّعاً بذلك مخزونه.

حركة طلابيّة وسياحية

قبل نحو عام، انتقل إياد أمتاراً قليلة إلى محلّ أوسع من سابقه، ذي سقيفة يمكن الجلوس فيها للدراسة وشُرب شيء ساخن بين المحاضرات الجامعية، فالمنطقة تضمّ عدداً من الجامعات، يُشكّل طلابها وأساتذتها الشريحة الأبرز من مرتادي المكتبة، التي تضمّ مراجع وكتباً باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، يتمّ الحصول على بعضها عند الحاجة إليها عبر طلبها من تركيا؛ وهي عبارة عن نسخ مصوّرة وليست أصلية، فما يهمّ الطالب الجامعي المحتوى والمعلومات قبل أي شيء آخر، بالإضافة إلى عدد كبير من الروايات والإصدارات الدورية القديمة ودواوين الشعر، التي تشكّل الجزء الأكبر من محتويات المكتبة.

القُرب من الجامعات ومن حركة طلّابها هو ما دفع مالك مكتبة "Book bazar" إلى إغلاق فرعه في شارع ألفرد نوبل، الذي يعلو الشارع الذي فيه سلسلة مطاعم "بربر" الشهيرة، وأخذ محل ملاصق للفرع الأول في شارع الصيداني الذي يعلو شارع بلس في رأس بيروت، حيث يوجد المبنى التاريخي للجامعة الأميركية.

أقفلت العديد من مكتبات الكتب الجديدة بسبب قلّة الإقبال

تزدحم في هذه المكتبة كتبٌ متنوعة بلغات عدّة، يغلب على موضوعاتها الجانبان السياسي والتاريخي. إلى جانب طلاب الجامعات، هناك بعض السيّاح العرب الذين ما تزال تجذبهم مركزية بيروت الثقافية، التي تبدو مكتبات الكتب العتيقة مكاناً ملائماً لوجودهم، نظراً إلى عتقها هي الأخرى. أغلب هؤلاء السياح عراقيون، بالإضافة إلى بعض السوريين والمصريين، وبعض العراقيين تحديداً من التجار، الذين يقصدون مكتبات الكتب المستعملة لشراء ما يشحنونه لعرضه في مكتباتهم. 

بشكل عام، تتفاوت أسعار الكتب المستعملة تفاوتاً كبيراً، بحسب عوامل عدة، منها العلاقة التي تكون قد انبنت بين الشاري والبائع، والسياسة التي يتّبعها البائع في عمله وعلاقة ذلك بكمية مخزونه... فيمكن لسعر الكتاب المستعمل أن يتراوح بين سعر النسخة الجديدة منه، نزولاً إلى 20% أو 30% من سعر النسخة الجديدة. أما بالنسبة إلى الكتب النادرة ذات الطبعات الأولى، قليلة التواجد أصلاً، فيمكن أن يُطلَب فيها أضعاف ذلك.

رحلة محفوفة بالمفاجآت!

تحرص مكتبة "Book bazar" على المشاركة في "معرض بيروت للكتاب"، ويكون الإقبال عليها ملحوظاً نظراً إلى ما تَعِدُ به أكوام الكتب المتراكمة من كنوز مخبّأة في باطنها، يمكن أن تكون نسخاً لم تعد متوفّرة في دور النشر التي أصدرتها، أو أن بعض هذه الدور لم يعد لها وجود أساساً. ينسحب أمر الإحساس بالمغامرة واستنفار حسّ الاكتشاف على زيارة أي مكتبة للكتب المستعملة، حيث يتجدّد المعروض باستمرار، على عكس الحال مع مكتبات الكتب الجديدة، التي تحوّلت مع غلاء الدولار إلى نوعٍ من مكتبات الأونلاين، لا تجد فيها إصداراً جديداً ما لم توصِ عليه أولاً ليجلبوه من دار النشر، التي توقّفت عن توزيع كتبها "بالأمانة" على المكتبات، حيث تشترط أن يتمّ دفع ثمن كل ما يخرج من مستودعاتها.

بعد مشاركتها في عدد من المعارض الصغيرة في قرى جبل لبنان، وعلى امتداد الساحل، وكذلك داخل مدينة بيروت، والتي "اقتصرت فوائدها على التسويق لاسم المكتبة والتعرّف إلى أناس جدد، بدون أرباح مادية، وغالباً بخسارة خاصة إذا كانت فترة المعرض طويلة"، تستعدّ مكتبة "كتابي 2021" للمشاركة في "معرض بيروت" للمرة الأولى. يبدو إياد خبّازه، كما يوضّح لـ "العربي الجديد" متحمّساً لهذه المشاركة، ويعد بأسعار تتراوح بين دولار ودولارين للكتاب الواحد.

قُبيل إقفال هذه المكتبة لأبوابها عند السابعة مساءً، يدخل شاعر لبناني ليسأل عن مرجع لمقالة يكتبها، ستُشكّل جزءاً من كتاب فيما بعد. يمرّ ممثل سوري من أمام الواجهة ويكتشف وجود المكتبة متأخراً، إذ سبق أن ملأ كيساً من مكتبة مجاورة لزوم الحفر في الشخصية الجديدة التي سيؤدّيها. يحفظ موقع المكان ويَعِدُ بالعودة مرة أخرى.

المساهمون