"تصاميم لحياة أُخرى" لمحمد ناصر الدين.. صناعة المثال

13 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "تصاميم لحياة أُخرى" هي مجموعة شعرية للشاعر اللبناني محمد ناصر الدين، ضمن سلسلة "إشراقات" بإشراف أدونيس، وتهدف لتقديم أصوات شعرية متنوعة من العالم العربي.
- تتميز قصائد ناصر الدين بخصوصية فريدة، حيث تبني مشروعها الشعري منذ البداية، معتمدة على مثال داخلي خاص بها، مما يجعلها قريبة من الشعر التقليدي دون تكرار.
- شعر ناصر الدين يتميز بالتفكير والتأمل، حيث يقترب من الشعر الألماني، وتبدأ القصائد كنقطة معينة وتكتمل كأقصوصة، مما يمنحها قوة وعمقاً.

"تصاميم لحياة أُخرى" مجموعة محمد ناصر الدين الشعرية، الصادرة ضمن سلسلة "إشراقات"، التي يختارها ويشرف عليها أدونيس، وهي بحسب تقديمه للسلسلة "الشعر بوصفه حياة وحرّية هو ما تؤسّس له اليوم أصوات شعرية متنوّعة، نساء ورجال من مختلف البلدان العربية، وتلك هي ظاهرة فريدة في تاريخ الإبداع الشعري العربي". السلسلة تصدر عن "دار التكوين" بمنحة من "مؤسسة غسّان جديد للتنمية"، والغلاف من تصميم أحمد معلا، والإشراف العام لأرواد إسبر.

لا نعرف موضع مجموعة الشاعر اللبناني من السلسلة، لكنّها، ومعها مجموعات الشاعر السابقة، تملك ما يستحقّ أن تُدرج به في التجارب الجديدة. لها، ولما سبقها من نتاج الشاعر، ما يمكن أن نستظهر فيه قصيدة خاصّة وعملاً له مبناه وقوامه وميزته. إذا كان لنا أن نستطلع المجموعة، وما قبلها، فإنّ أوّل ما نقابله هو أنّها، منذ البداية، تملك قصيدتها، بل هي تجد هذه القصيدة فور العمل وفور المباشرة.

نحن هكذا لا نملك إلّا أن نلاحظ أنّ قصيدة ناصر الدين تملك منذ المطلع مشروعها الشعري، فهي تبني على مثال قائم في سريرتها وفي ضميرها. إنّها هكذا تعمر من الأوّل بناءً يزداد خصوصية كلّما ارتفع. هذه الخصوصية ليست من الذهاب بعيداً في الاستغراب، كما أنّها ليست من الخروج والشطح. ليست مدّعية ولا مزعومة ولا متصانعة، لكنها، وهي لا تتعنّت ولا تبالغ ولا تصدم ولا تتعمّل، تظلّ تحافظ، وتسترسل في محافظتها، على سمتها ونسقها ومبناها الأساسي.

شعره هو تماماً في هذا البعد عن الأمثلة والقرب من المثال

هي هكذا لا تصارع، ولا تتعمّد أن تذهل وأن تثير العجب، أو تجبّه أو تستفزّ. إنّها مع ذلك، وهي تحيلنا كلّما تقدّمت على الشعر كما تعلّمناه وكما ألفناه. تحيلنا على الشعر كما لا يزال في صداه وفي رجعه وفي إرثه، بدون أن يكون مع ذلك متواتراً أو موروثاً أو مسبوقاً، بدون أن يكون على مثال معروف، أو على نظام ونسق سالفين. إنّه لا يبعد عن هذه المثالات، ولا ينكرها أو يتنكّر لها. بالعكس من ذلك يبدو وقد قارب هذه المثالات وشارفها، أي إنّه التقط من بعيد سرّها وما تحتها وقراراتها، بل إنّه يتشكّل، تقريباً، في موضع مجاور لهذه القرارات، بل إنّه يتشكّل بإيعاز بعيد لها ورجع ناء.

محمد ناصر الدين
محمد ناصر الدين

إنّ هذا القرب على بعده، هذا الإيعاز بدون أن يكون تكراراً أو إحالة بحتة أو تذكيراً، هو ما يمسك البناء، وهو ما يمنحه مشروعه الذي يبقى خالصاً للشعر في عمومه، للشعر في مثاله كما أراده الشاعر، للشعر بما يسفر عنه وما يتهيّأ له. في هذا الشعر قرابة من الشعر في إجماله، بل قرابة وأصداء وتلاويح وتلاميح، بدون أن تخسر تجربتها الخاصّة، وبدون أن تخسر صداها هي، ورجعها ومبناها ونسقها.

أي إنّ خصوصيتها هي تماماً في هذه القراءة للشعر، وفي مثاله الذي يصدر عنها، وفي ما يتّسع له هذا المثال، وما يتحوّل إليه، وما يهمس به وما يستشفه. أي إنّ شعر ناصر الدين هو تماماً في هذا البعد عن الأمثلة، والقرب من المثال. إنّه ليس معركة مع الشعر، ولكن في داخله. إنه يُغنّي ولكن الغناء لا يبقى في وتيرة مسبوقة، بل ربما لا يقف عندها، سرعان ما نجد له وتائر أُخرى، بل سرعان ما نجده يحيلنا على سواه، بدون أن يدّعي ذلك أو يفتعله، ثم إنّ هذا الشعر يفكّر، بل يحيلنا أحياناً على شعر يفكّر، الألماني مثلاً، مع أنّنا لا نجد أنفسنا تماماً هناك، فالشاعر هنا يفكّر، وهذا هو فكره هو أو نسقه في تفكير الشعر.

"نرمي الجمل المنزوعة الجلد
والقصائد المهلكة
فوق الزمن
في أذنيه المثقوبتين بالغياب
كبرنا في الحزن مثل الغرقى
تأخّرت الموسيقى كثيراً
واحتضر أنبياء الحزن كلّهم
لا بدّ من يديك
تحملان من الطفولة عصفورة التين".

الشاعر هنا يحتلّ مكان الراوية. القصيدة تبدأ من مكان ما وتكتمل كأقصوصة، والقوّة في خاتمتها التي هي لا شخصية تقريباً. هكذا تقوم القصيدة وتنبني من أماكن عدّة، وبدون أن تقف عند أحدها، وبدون أن يضيع الغناء في الفكر أو يعارض الفكر الغناء.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون