الأزمات والرسميات
يوم الجمعة 28 إبريل/ نيسان، ومنذ أن فُتحت بوّابات معرض تونس الدولي للكتاب للعموم في الساعة الثانية بعد الظهر (سبق ذلك افتتاح رسمي في الساعة الـ11 حضره الرئيس قيس سعيّد)، دخلتُ يغمرني شعور العائد بعد غياب، حيث مضت أربع سنوات على زيارتي الأخيرة. وفي الحقيقة، فقد غبت عن دورة واحدة (نوفمبر 2021)، فيما شطبت كورونا وعدم الاتفاق على موعد مناسبٍ للمعرض دورتين. لذلك قلتُ: ربما جرت مياه تحت جسور صناعة الكتاب، لكن المياه تجري وحال الكتاب يراوح مكانه في تونس، وما هذه التظاهرة إلا شاهد على ذلك.
لا يزال المعرض بقاعتين، وقد كانت ثلاثاً منذ سنوات، ويبدو أنه سيتقلّص نحو قاعة واحدة قريباً أكثر من كونه سيعود إلى حجمه السابق، فجولة سريعة في القاعة الثانية ستؤكّد أن المعرض لم يعد يحوي سوى قاعة ونصف، وأن هناك تبايناً في الحركية بين القاعة الرئيسية وتلك، وهو ما جعل الكثير ممن في هذه القاعة يعتقدون أنهم معاقبون، خصوصاً الأجانب، وتلك حكاية سنعود إليها في موضع قادم من هذا النص.
لكل محبٍّ للكتب، لا يزال المعرض يحتفظ ببقية جاذبية، قد يكون بعضها ذاتياً، مرتبطاً بصورة قديمة لم تعد تتطابق مع الراهن، ولكن بعضها الآخر عِيانيٌّ يتعلق بنجاح نسبيّ في تحقيق شيء من الجاذبية والجدوى، فرغم تراجع ملحوظ في إقبال الزوار، يظل "المعرض الدولي" فضاءً لوليمة ثقافية رائقة ولانتقاء المفيد والمشوّق بما لا يتاح في بقية أيام العام.
كان أول حديث خضته مع صاحب مكتبة شهيرة للكتب القديمة في تونس العاصمة، أخبرني أنه ودّ التحدّث مع قيس سعيّد عن مستقبل تجارة الكتب، أو على الأقل أن يوصل عارضٌ آخر أزمات الكتاب إلى مسمعه، لكن موكبه لم يمر من أمام جناحه، بل اكتفى بزيارة بعض المؤسسات الرسمية وأجنحة دول صديقة.
لا تبدو تجارة الكتب سوقاً كاسدة رغم شكوى الناشرين الدائمة
هذا الحديث عن الأزمات في مجال الكتاب لا يزال يسكن كل المعارض، إذ لا يحبّ أن يترك تلك "اللطمية"، لا الناشرون ولا المؤلفون، ولا حتى المسؤولون في قطاعات الثقافة. يكفي أن تحدّث أحدهم عن مزيد من التخفيض، حتى يذكر لك الأعباء التي ناء بها حتى يشارك في المعرض، ومن ثمّ يمر إلى إجحاف المطابع ومتطلبات أُخرى في صناعة الكتاب.
وحدهم الواثقون من جودة ما يقدّمونه للقرّاء تركوا هذه البكائيات منذ زمن، وينتظرون آفاقاً جديدة للكتاب لا تزال غائبة عن المعرض، ومن حسن الحظ أن صوتاً جهيراً بدأ يصعد بأن هذا المعرض ليس أكثر من بازار للكتب الورقية، فيما تعيش معارض العالم تحوّلات الكتاب بعمق، فتصبّ فيها منعطفات المعرفة ومسارات التطوّر التكنولوجي، ومن وراء ذلك تتوضح أكثر العلاقة بين المهنيين، فيطوّرون صناعتهم ويواجهون المصير المشترك الذي يواجهونه.
لكن، رغم الصورة المتشائمة المسوّقة، يبدو معرض الكتاب سوقاً غير كاسدة، حتى وإن تراجعت العُملة أو تقلص الإقبال، على الأقل بالنسبة إلى من لا يزالون يشاركون. بالعكس، من السهل أن نكتشف أنّ "معرض تونس" بات تجارياً أكثر فأكثر، من الأغلفة إلى البضائع الموازية، وفي المقابل يشحُب الوجه الثقافي للمعرض بالتدريج. يتبدّى ذلك بسهولة في البرنامج الثقافي المرافق الذي يعاني من تضخّم المواضيع والوجوه المكرورة، وتقلّص الضيوف الأجانب، وصعوبة تحويل التظاهرة إلى حدث أوسع من الدائرة النخبوية. لكن الأخطر من ذلك أنه بات يبدو مثل بيئة طاردة للناشرين الأجانب أكثر فأكثر.
معرض يغرق في محليته
منذ إعلان قائمة الأجنحة، قبل أسبوع تقريباً من انطلاق المعرض، عرفنا بأن العارضين التونسيين غالبون على مساحة المعرض. تساءلتُ وقتها أي معنى لمعرض دولي حين تغلب الملامح المحلّية، وخصوصاً حين نعلم أن تونس قد ابتكرت منذ سنوات قليلة معرضاً للكتاب الوطني، وقد أقيمت دورته الأخيرة منذ أشهر قليلة، ما يوحي أن هناك إشباعاً لدى السوق التونسية من المعروض التونسي.
يجدر هنا التنويه بأن هذا الانزياح نحو المحلّي لا يعني تونس وحدها، فالحال ذاته في عدة عواصم أخرى تحتضن معارض الكتب، لقد باتت متنفساً للناشر المحلّي لتسويق بضاعة نحو قارئ محلّي، ويبدو أن الهيئات المشرفة على المعارض (ومن ورائها الدول) ترعى هذا التوجه وتجد فيه مصلحة بإرضاء مطالب الناشرين المحلّيين، ولتبقَ المعارض الدولية لمن استطاع إليها سبيلاً، لا يهم إن لم يجد القارئ أجود العناوين.
المسألة لا تقف عند الغلبة العددية للتونسيين في المعرض الدولي، فالتوزيع المكاني للعارضين يشكو من خلل واضح. فمن باب الدخول وأنت تتقدم في المعرض ستعترضك أساساً أجنحة تونسية (بعضها يعرض كتب ما تغيّب من دور نشر عربية عبر التوكيلات). وإذا وددت أن ترى عارضين مصريين ولبنانيين وسوريين وعراقيين، عليك أن تتوغل في المعرض وتصبر.
مع مرور السنوات، أصبح المعرض بيئة طاردة للناشرين الأجانب
بعيداً، في القاعة الثانية وجدت جناح "الشبكة العربية" الذي يقدّم أكبر مجموعة من دور النشر الغائبة ("المركز العربي"، "المشرق"، "جسور"، .....). كانت هناك تخفيضات هامة، وحين أشرت إلى الموقع الذي يصعب الوصول إليه، أخبرني أحد المشرفين على الجناح أن الكثير من الزوّار حين وصلوا تحسّروا على أن نقودهم ذهبت في كتب أخرى لأجنحة صادفتهم في الأروقة الأولى من المعرض.
شكوى الناشرين الأجانب من معرض تونس راسخة. كل عام تسمع من يقول: هذه آخر دورة أشارك فيها. وفعلاً، تغيّب كثيرون، أو قرروا عدم العودة في ظل ارتفاع سعر كراء الأجنحة مقارنة بالعارضين التونسيين. لكن يبقى بينهم من يعودون باستمرار، فأولئك قد عرفوا كيف ينتزعون الأرباح رغم تراجع قيمة الدينار التونسي وقلة الإقبال. ومن وجه آخر، بات هؤلاء أقرب إلى موزعين منهم إلى ناشرين يطرحون كتباً أشرفوا عليها من الألف إلى الياء.
وأنا ألاحظ انحسار حضور كثير من دور النشر العربية، تذكّرتُ مطلع أغنية أزنافور وهو يتحدّث عن مونمارتر، قائلاً: "أحدّثكم عن زمن لا يستطيع من هم دون العشرين أن يعرفوه"، إذ ينتبه من يعرف "تونس للكتاب" القديم أن أسماء الأجنحة لم تعد تحيل على دور نشر عربية معروفة، بل صار عدد كبير منها مكتبات تونسية تعرض في أجنحتها كتباً من مصر ولبنان وسورية والعراق عبر توكيلات.
غياب الناشرين العرب يعني أن بُعداً من أبعاد المعرض قد أخذ في التآكل، وبما أن الأمر يسري في معارض أخرى، فهذا يعني في المحصلة أن الترابط الثقافي بدأ يتخلخل بين البلدان العربية. مثلاً، تأسفتُ كثيراً لأنني لم أجد هذا العام الجناح المغربي الذي كان يجمع عدداً كبيراً من دور النشر في بلد يعدّ الأنشط عربياً في العلوم الإنسانية. لقد كانت المعارض الدولية تمثّل نوافذ -ولو صغيرة- لانتفاع كل بلد مما تقدّمه البلدان العربية الأخرى معرفياً. يحدث ذلك اليوم، ولكن بتقتير، وقبل كل شيء تحت وصايةٍ من الموزعين.
تعني وساطة الموزعين أن المسافة قد اتسعت أكثر بين الكتاب والقارئ، وهي مسافة يحدّدها السعر بشكل رئيسي، وهذا الأخير في ارتفاع متواصل بسبب الانخفاض المستمر للعملات المحلّية وتزايد تكاليف الطبع والشحن. وإذا علمنا أن الموزّع غير الناشر (كما ينبغي أن يكون) في تعامله مع القرّاء، فما هم إلا زبائن من منظوره، علمنا أن ضمان أرباح الموزّع تعني بالضرورة إثقال كاهل القارئ. كذلك فإن هناك فارقاً هائلاً بين أن تعود عائدات الكتب مباشرة للناشر فيضخها في صناعته، بما هي صناعة للمعرفة في أحد وجوهها، وأن تذهب لموزّع سيعمل فقط على تدوير تجارته.
عاماً بعد عام، تختفي من المعرض دور نشر أساسية كانت لها صولات فيه، أذكر دوراً لبنانية يرتبط بها القرّاء التونسيون بشكل خاص من قبيل "دار الطليعة" و"دار الآداب" و"الفارابي" و"الساقي"، كذلك تغيب عنه دور جديدة انتزعت مواقع لها في مصر والأردن أو تلك التي نشأت في المهاجر الأوروبية خصوصاً، وأضرب منها مثال "منشورات المتوسط" التي صعد نجمها في الدورات الأخيرة من معرض تونس بفضل ربط علاقة نشيطة مع القرّاء (والكتّاب) التونسيين، وقد كان السعر أحد أدواتها الترغيبية، ولكننا في دورة 2023 سنجد "المتوسط" غائبة لتحضر كتبها في زاوية في جناح ممثلها التجاري في تونس. قد يستفيد الطرفان من هذه المعادلة الجديدة، لكن الخاسر هو القارئ، وبالتالي سوق الكتاب.
حتى العراق الذي يحضر ضيفَ شرفٍ في معرض تونس، لا نكتشف الأزهار التي تفتّحت في حقول صناعة الكتاب فيه خلال السنوات الأخيرة، حيث يكاد يقتصر برنامج ضيف الشرف على المحاضرات والندوات. ألم يكن من الوجيه أن يأتي العراق بناشريه الجدد ما دام ضيف شرف؟
ما يغيب أيضاً، ويحزّ في نفسي، هو ذلك النوع من الناشرين الكرماء الذين يميّزون بين القارئ العابر والقارئ الراسخ، فيدعمون هذا الأخير، ولو على حساب الربح المادي. وقبل ذلك تستمتع بالعلاقة التي يعقدونها مع كتب صدرت لديهم يعرفون أدقّ أسرارها. هؤلاء يختفون بالتدريج، وحين ينقرضون ستفقد معارض الكتب العربية كل أبهة وجمال...
على كتفيْ فرانكنشتاين
كاد اليوم الأول أن يمرّ عادياً، لولا أن الناشر الحبيب الزغبي (دار الكتاب) أطلق فيديو على المباشر عبر الفيسبوك يتحدّث عن إغلاق تعسّفي لجناحه وحجز كتاب "فرانكنشتاين تونس" الذي صدر قبل أيام قليلة للكاتب التونسي المقيم في كندا كمال الرياحي. نفهم منذ عتبة الغلاف أن الكتاب يتناول بشكل ما قيس سعيّد، فالصورة تقف في منطقة وسطى ما بين ملامح الرئيس التونسي والمسخ الذي اخترعته مخيلة الأدب وكرّسته السينما.
بسرعة، بدأت كرة الثلج تكبر في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الأمر لم يخل من ريبة. وكما تجمّعت الأشلاء البشرية في جسد فرانكنشتاين، تراكمت تفاصيل متناثرة لتُكوّن حدثاً-مسخاً.
كنتُ قد غادرتُ المعرض قبل وقت قصير من الإغلاق، لكنني خلال السهرة شاهدتُ فيديو من المعرض يتحدث مصوّره عن إغلاق دور النشر التونسية لأجنحتها تضامناً مع "دار الكتاب"، ونرى بالفعل عارضين يُغلقون أجنحتهم، ولكن حدث ذلك في الساعة السابعة مساءً في الوقت الذي يُغلق فيه المعرض أبوابه كل يوم.
بمثل تلك الفيديوهات، اشتعلت سريعاً عاصفة تضامن ضد الرقابة التي تمارسها إدارة المعرض، والنظام التونسي بشكل عام، فيما شمَت آخرون بكاتب لم ينسوا احتفاءه منذ سنتين تقريباً بمقال في جريدة صهيونية تتحدث عن ترجمة روايته "المشرط" إلى العبرية. لم تأتِ الهجمة الحالية، ولا السابقة التي تعرّض لها الرياحي، انتصاراً للحق الفلسطيني وحده، بل كانت في جانب منها تهجماً على كاتب لم يفتأ يخلق العداوات حوله، وفي السابق امتطى كثيرون تلك الفضيحة التطبيعية لتسهيل خروج الرياحي من إدارة مشروع "بيت الرواية" الذي أسّسه تحت مظلة وزارة الثقافة سعياً لوراثة إدارتها.
هكذا، وبعد غياب في المهجر الكندي، نطّ اسم كمال الرياحي من جديد في تونس حين امتطى كتفي فرانكنشتاين. لأيام قبل المعرض، كانت الدعاية الفيسبوكية تجري للكتاب على قدم وساق، ثم جاءت حركة المنظمين لتشعلها. إلى اليوم، لا تزال الصورة غير واضحة عمّن طلب حجز الكتاب، حيث تعمل هذه الهيئات (كما في معرض مؤسسات منطقتنا) مثل صناديق سوداء تفعل فعلها دون أن نُدرك الفاعل الحقيقي. غالباً، تتحرك هذه الهيئات من منظور محاولة تحاشي المشاكل، ومنها تلك التي يمكن أن تثار مع السلطة، ويبدو أن هيئة التنظيم قد علمت متأخرة بوجود الكتاب في اليوم الذي أتى فيه الرئيس، وعلى الرغم من أن سعيّد لم ينتبه للكتاب معروضاً، فقد هرولوا لحجزه (خصوصاً في سياق ما تعيشه تونس من اعتقالات في الفترة الأخيرة)، ما أظهرهم كرقباء على الكلمة، معتدين على حرية التعبير.
في اليوم الثاني، بدت العاصفة وقد هدأت قليلاً مع إعادة فتح جناح "دار الكتاب" مع ترويج رواية رسمية مفادها أن سبب الحجز يتمثل في أنّ الكتاب لم يكن مُدرجاً ضمن القائمة التي أرسلها الناشر للمشاركة في المعرض، وهي الرواية التي أكّدها الناشر، فقد بدت له مَخرجاً وسطاً، ولكنها أثارت موجة سخرية من ذلك النوع من التبريرات والتسويات.
هكذا بدأت الحكاية تنفلت من الخيال وتمسخ الواقع. نتفاجأ حين نعرف أن معارض الكتب لا تزال تتحدّث عن قوائم تُرفع مسبقاً للمنظمين. وأن الناشر عليه أن يرفع إصبعه مثل تلميذ حتى يضع كتاباً في رفوف جناحه. وإلى ذلك أضف مهزلة أخرى، هي أن الكتاب المُصادر تجميعٌ لمقالات منشورة أصلاً على الإنترنت، مبذولة لمن يطلبها، وأن عنوان الكتاب مستوحى من مقال بعنوان "الشعب يريد ولعنة فرانكنشتاين" نشره الرياحي في موقع إلكتروني عربي في أكتوبر 2021. وفي الأمسية راجت أخبار على فيسبوك عن مداهمات للمكتبات التي توفّر الكتاب، بل وصل الأمر إلى القول بأن رجال الأمن طلبوا من المكتبات أسماء الذين اقتنوا الكتاب.
وفي الوقت الذي كان يمكن فيه إخماد الحريق، تورّط منظّمو المعرض أكثر حين نشروا فيديو (اليوم الثالث من المعرض) عبر صفحة التظاهرة. كان ضربة تواصلية مضادة، فقد اجتمعت في الصورة هيئة التنظيم، وقرأت مديرة المعرض زهية جويرو (باحثة في الحضارة الإسلامية معروفة بجدّيتها، لكن هدوء الأكاديميا لا يمتّ بصلة بفضاء مجنون ومشحون مثل المعرض) بياناً تشابَه صورةً مع ما يحدث عند إعلان الانقلابات العسكرية حيث يُحشد رجال الدولة والجنرالات كي يظهروا أنهم يدٌ واحدة. ومع الإشارة إلى إنشاء لجنة لفحص العمل فهمنا أن المعرض برمته قد وقع في الفخ المنصوب، فسرعان ما التقط هفوات الفيديو فريقُ مناصري الرياحي كي يحوّلوه إلى حجة لصالحهم، ويزداد الطلب على "الكتاب الممنوع".
ذهبت هذه الحكاية الفرانكنشتانية بما بقي من سُمعة المعرض، فضجيجها كان أعلى من أي إعلان لصدور كتاب جديد أو محاضرة من أحد ضيوف المعرض. لقد داهم فرانكنشتاين المعرض فأربكه، وأشار إلى ما يمكن أن تصل إليه حيل تسويق الكتب من بحث عن أي أسباب للظهور، وإلى ما في حياة النخب الثقافية في تونس من استسهال للاصطفاف وعنف رمزي.
أما الفصل الأخير إلى حد الآن (لم يظهر الكتاب بعدُ في المعرض إلى حد كتابة هذه السطور)، ولعله الأكثر سخرية، فهو أن الرئيس التونسي ذهب في أمسية الثلاثاء 2 مايو (أي بعد خمسة أيام من حادثة الحجز) إلى مكتبة في وسط العاصمة، مرفوقاً بكومندوس، واشترى نسخة من الكتاب.
قراء غير مرئيين
في زيارات الأيام الثلاثة من المعرض، كانت هناك وجوه صادفتها أكثر من مرة، وفي أوقات متفرقة من اليوم. هم ليسوا عارضين، ولا ناشرين أو كتّاباً أو أصحاب مكتبات، أو من فريق التنظيم. معظمهم شباب في العشرينيات من العمر، يتحركون بين نقاط كثيرة في المعرض، ومع كثرة التقاطعات معهم ستشعر أنهم ليسوا اعتباطيين في مساراتهم، يُفرّقون بين العميق والتافه من المؤلفات ودور النشر، وإذا تحدّثوا فهم على دراية محترمة بالمحتويات والكُتّاب، بل بصناعة الكِتاب وأحوالها.
وإلى ذلك ستكتشف انفتاحاً على لغات وثقافات أبعد من ثنائية العربية والفرنسية. لكن أبرز ما يلفت الانتباه، امتلاك بعضهم لحسّ نقدي مُربك، فلا تدري إن كان ينبع من عفوية، أم تُراه يأتي من تجربة ومعرفة. قراءاتهم جديدة ومنتقاة، تتجاوز عتبات الثقافة العامة بأشواط، وهم بالتأكيد ليسوا من أولئك القرّاء الذين تدفعهم الإثارة والضجّات الجانبية حتى يفكّروا في تصفّح كتاب.
وستفهم من خلال كل ذلك أن هؤلاء الذين يبدون كعابرين في عالم الكتاب قد نجحوا في بناء علاقة مكثفة ومتينة مع الكتب، لا نجد مثيلها عند بعض المتداخلين يومياً في قطاع الكتاب من ناشرين ومسؤولين.
يتبدّى لي هؤلاء بوصفهم جزءاً ظاهراً من شريحة جديدة من القرّاء. وهي شريحة وُجدت دون رعاية أو عناية. هم مدينون في تكوينهم إلى مواقع الإنترنت أكثر من وقائع الحياة الثقافية في تونس، ومن مسالك تجاربهم في الحياة أكثر من الدرس الجامعي وتوجيهاته.
ولهؤلاء القرّاء الجدد حضور في منصات التواصل الاجتماعي، ولعل ما ينثرونه من صور وتعليقات عن المعرض هي أكثر صور التظاهرة وصولاً خارج الجدران. وإذا كان هناك بعضُ وجوه من النجاح الاتصالي للمعرض، فللقراء نصيب كبير منه.
لكن رغم الحيوية التي يبثّونها داخل المعرض، ورغم ذلك الانغماس اللطيف في عالم الكتب، لن تشعر أنهم جزء من الدورة الدموية لقطاع الكتاب في تونس. لا تكاد تشعر أن هناك انتباهاً إليهم، كأنهم مجرّد هامش افتراضي. إنهم بالنسبة إلى المادة المعروضة كأي زبون أتت به قدماه.
ليس من الصعب أن تنتبه إلى وجود قطيعة بين "القرّاء الجدد" وما يتوافر في المعرض؛ فالقارئ الذي طوّر شيئاً من التمرّس لديه من الرغبات ما لا تفي به قائمة الكتب المعروضة أمامه، خصوصاً أن عدداً من هؤلاء مشتبكون بتطبيقات القراءة الإلكترونية ما يشحن تطلعاتهم أكثر ويفتحها على فضاءات وخيارات أوسع، لكن الأخطر من ذلك استفحال غياب دور النشر العربية (كأقرب دائرة جيو-ثقافية) عن معرض تونس، وما يأتي من كتب جيّدة عبر الموزعين لا يتوافر إلا بأسعار كأنها أسوارٌ تحمي قلعة. الشكل الوحيد من أشكال انتباه قطاع الكتاب في تونس لهؤلاء، استناد بعض الأجنحة إلى بعضها في مكتباتها وأجنحتها.
كثيراً ما نسمع اشتكاء الناشرين من ضيق السوق التونسية، وإن بزوغ هذه النوعية من القرّاء دليل على وجود نواة من المغرمين بالقراءة، ممن يمكن أن ينشروا عدوى الاحتكاك بالكتب من حولهم. هم نواة هذه السوق مستقبلاً، وهم مشاريع مؤلفين وناشرين، فهل تجد هذه النواة ظروفاً ملائمة للتوسع؟
كان يُفترض أن وجود شريحة من القرّاء الجدد يطمئننا إلى مستقبل الثقافة في تونس، ولكن عدم احتضانهم هو أشبه بإهدار هبة من السماء. ومن دونهم، تخيّلوا معرض الكتاب؟
الثقافة - الأرخبيل
لمعرض تونس أيضاً وُجوهه الناضرة التي لها أن تباهي بما تقدّم من مؤلفات في كل دورة. في السنوات الأخيرة، لا تخطئ العين انتظام عدد من الكُتّاب في إصدار أعمال جديدة ذات سوية معرفية ثابتة، وعلى درجة من التنويع في الموضوعات. أسماء مثل شكري المبخوت ومحمد أبو هاشم محجوب ومصطفى الكيلاني ولطفي عيسى وفتحي إنقزّو والهادي التيمومي وحكيم بن حمودة لا يكاد يمرّ حَوْلٌ إلا وترى لهم إصدارات جديدة.
مع هؤلاء لا يفوتني أن أذكر آخرين حتى وإن غاب جديدهم في المعرض الحالي، وأولئك الذين يمثّل كل واحد منهم اليوم مكتبة مستقلة، أذكر منهم: فتحي المسكيني، الصافي سعيد، عبد العزيز العيادي، فتحي التريكي، أبو يعرب المرزوقي، وعبد المجيد الشرفي، وغيرهم كثير في مجالات عدة.
يُفترض أن وجود هؤلاء في بلد يعني أن لقطاع النشر فرصة حقيقية للنهوض، ولكن كبوات هذا القطاع، ومنها تعسّر إشعاعه إقليمياً، تشير إلى سوء استثمار في المنتوج المعرفي المتوفّر (بعضهم لا ينشر في تونس). أفترضُ أن يُعامل هؤلاء كثروات وطنية، ولا أجد في الصورة المعكوسة عبر مرآة النشر شيئاً من ذلك. أعني هنا النشر باعتباره إحدى قنوات الاعتراف المعنوي والمادي، وليس بوصفه مجرّد سوق أو وساطةً بين المؤلف والمطبعة.
توجد مؤشرات تبعث على التفاؤل، لكنها لا تأتي من شريحة الناشرين، بل من المؤلفين ومقترحات الموضوعات التي يشتغلون عليها. كانت دورة معرض الكتاب 2023 مناسبة لنرى كتاباً تأليفياً يتناول بالدرس مسيرة مفكّر تونسي لا يزال على قيد الحياة، وهو عمل للباحث عمر علوي بعنوان "فتحي المسكيني الفيلسوف النابتة: إضاءات حول ما يحدث عند الحدود" (أركاديا للنشر). لقد تكرّست على مدى عقود في الثقافة التونسية حالة من التباعد بين المُنتجين في المجال الفكري. يتناولون مفكّري الغرب أو الشرق أو يُجادلون القدامى وقلما يتحدثون في مؤلفاتهم عن بعضهم البعض، وكأنهم لا يسكنون مساحة جغرافية واحدة.
لهذا الحس التشاركي- التونسي أثره في الدراسات الأدبية، ففي كتاب شكري المبخوت الأخير، "متحف الأدب" (منشورات مسكلياني - وصل متأخراً إلى المعرض بخمسة أيام)، يجعل المؤلف من تاريخ الأدب التونسي موضوع بحثٍ، وكان قد أصدر من قبل عملاً بعنوان "الزعيم وظلاله" (2016) تناول فيه كتابات السيرة الذاتية في تونس.
لكن هذا الانفتاح الداخلي لا يزال يعمل بشكل قطاعيّ في الغالب، فنحن أمام دراسات فكر-فكر أو أدب-أدب، ومن النادر أن نجد الكتب منفتحة على قطاعات متنوّعة أو تقدّم تقاطعات تخصّصية فريدة. المعرض وقد "تتوْنس" أكثر من اللزوم بات لوحة صريحة تعرّي ما في منظومة النشر من نقائص، أنت لا تجد إلا القليل النادر عن السينما والمسرح والفنون التشكيلية (منشورات نيرفانا تمثّل استثناء) والمعمار والترجمة والعلوم.
هذه الحقول المنقوصة في لوحة معرض الكتاب ما هي إلا ما يوازي حقولاً منقوصة في تظاهرات ثقافية أخرى، ففي مهرجانات السينما أو المسرح يغيب الكتاب، فيما تتجافى الفنون عن بعضها البعض وتتقطّع أوصال المعارف. حتى الجمهور مُقسّم قطاعياً: جمهور الشعر شعراء، قرّاء الرواية والقصة ساردون، متابعو المسرح مسرحيون، نقاد الفن تشكيليون. إننا في ثقافة - أرخبيل.