إن كانت الطبيعة، بعناصرها ومعانيها بالنسبة إلى البشر، قد عادت في السنوات الأخيرة لتكون موضوعاً أساسياً في النقاشات الفكرية والسياسية، في ضوء الاختلال البيئي الذي يعاني منه الكوكب، فإنّها لا تكاد تفارق الفن التشكيلي، وتحديداً الرسم، منذ النهضة التي حوّلت التضاريس إلى موضوعٍ أساسيّ، بعد أن كانت اللوحة تُعنى، لعقود، بل حتى قرون، بالشخصيات المرموقة وبالمشاهد الداخلية.
ورغم أن عناصر الطبيعة باتت اليوم شبه مرتبطة بالرومانسية، وبالتأخُّر الفنّي، ولا سيّما في مجالات إبداعية مثل الشِّعر، إلّا أنها لا تغادر موقعها كموضوعٍ أساسيّ في ما يتعلّق باللوحة، وذلك حتى لدى الفنانين التشكيليين الأكثر معاصرةً، الذين غالباً ما نعثر عندهم على أعمال تصوّر تضاريسَ معيّنة، أو تبتكر مشاهدَ، عناصرُها الغابات والأشجار والنباتات أو الزهور، ضمن نظرةٍ واقعية، كما هو الحال في الطبيعة الميّتة، أو حتى في بعض التجارب التجريدية.
في معرضه "فزّاعات، أشجار، طيور ونحل"، الذي افتُتح الأربعاء الماضي، الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري في "الغاليري الأسترالي" بملبورن، حيث يستمرّ حتى الثامن عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر، يكرّس الفنان الأسترالي تيم جونز أعماله لتقديم مشاهد من الحياة الرعوية الأسترالية، ضمن قراءةٍ تُنوِّع بين التصوير الواقعي والانطباعية.
يتتبّع الفنان، في أعماله، دورة الحياة الطبيعية في بطئها وتقلّباتها، حيث تصوّر لوحاته، صغيرة الحجم في الأغلب، مشاهد بزوغ الخَضار، وانتقاله إلى مرحلة النموّ، والنضج، قبل تحوّله إلى هدف للطيور والحيوانات التي تأتي لتتغذّى عليه، ومن ثم عودته إلى البداية مع لوحاتٍ تمثّل تجرّد الطبيعة من أوراقها وخضارها، ودخولها مرحلة انتظار الفصل المقبل.
يميل الفنان، المولود في شمال ويلز، إلى تشكيل سرديّة عن هذه الصيرورة الطبيعية، بحيث تشكّل كلّ لوحةٍ مقولةٍ عن لحظةٍ من لحظات الدورة الطبيعية، مع الاعتناء بتركِ انطباعٍ شخصي عن هذه اللحظات، وهو انطباعٌ نعثر عليه في المشاهد التي ينتقيها، والتي قد تكون مجتزأةٍ من مشهدٍ أعمّ (كجذع شجرة، دون الشجرة كلّها، على سبيل المثال)، أو في اختياره ألواناً تُفارِق الشائع في تصوير الطبيعة، كالميل إلى الأحمر وتدرّجاته في رسم الأشجار على وجه التحديد.
على أنّ هذه الانطباعية لا تمنع الفنان من تكريس سلسلةٍ من الأعمال لرصد تفاصيل وعناصر طبيعية كما كان يفعل علماء الطبيعة في عصور النهضة والحداثة، حيث يرسم زهرةً أو نبتةً أو ورقةً انطلاقاً من عدّة وجهات نظر، ويسجّل إلى جانبها ملاحظاتها، ضمن مسعىً يُخلخل التصويرية التشكيلية ويقرّب اللوحة من العمل التوثيقي، من دون التخلّي عن جانبها الإبداعي.