"جاكوفا"، أو "ابنة المنزل اليهودي"، كما يُخبرنا العنوان الفرعي لرواية الكاتبة اللبنانية رجاء نعمة (1942)، روايةٌ تناكد السياسة، وهي من الأدب الذي يحلُّ إشكالات أغفلتها السياسة بحقائقها السائدة، فالأدب يشكّك في حقائق السياسة ويفكّك وقائعها.
الرواية عن عائلة يهودية في بيروت، وتمتدّ أحداثها الفعلية من أعقاب هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، إلى بداية الحرب الأهلية اللبنانية. خلال هذه المدّة، نعرف عبر عائلة يعقوب التي جاءت أساساً من إسطنبول، حال اليهود العرب، وهي حالٌ كما نقرأ ترتبط ارتباطاً إشكالياً مع إقامة كيان الاحتلال في الجوار، بخاصّة مع مزاعم الصهيونية إقامة "إسرائيل" باسم الدين اليهودي. هذا ما تدور الرواية في فضائه، وهي نصّ مثالي لتفكيك عنصرية فكرة "إسرائيل"، وللبحث عن دور الصهاينة في خطف اليهود.
تحضر فلسطين وسط هذا، لأنّ منزل آل يعقوب في رأس بيروت كان لصيقاً بمنزل يتبع "منظّمة التحرير الفلسطينية". لكن الصهاينة هُم مَن هدم المنزل اليهودي في إحدى الغارات. وتنتهي حكاية بيت العائلة بقصف طيران الاحتلال للمنزل اليهودي. إشراقةٌ يمكن أن نعيد قراءة الرواية على هديها. عالم الرواية غنيٌّ، طالما أنها تروي مصائر عددٍ من الشخصيات، وعبر هروب جاكوفا مع الشابّ المسلم والزواج منه في فرنسا، تكشف الكاتبة تناقضات شخصيات الرواية، وفقاً للأسلوب الذي تفكّر الشخصيات به.
حكايةٌ عن يهود بيروت الذين هدمت "إسرائيل" منازلهم فيها
ومن هذا التفصيل الإنساني، ننتبه إلى نموذج اليهودي الذي يرفض الهجرة إلى كيان الاحتلال، ويرفض فكرة "إسرائيل" بالمبدأ، على اعتبار أنّها تمثيل مباشر للعنصرية، أيضاً نلتقي نموذجاً يرى في "إسرائيل" جريمة، لأنّها أساساً قامت على تهجير شعب من أرضه. ونذكر هذا الجزء المرتبط بفلسطين، لأنّ ما يمثّله جاكوب، شقيق جاكوفا، بالنسبة إلى مسألة اليهود، يُوازيه في مكان آخر من الحكاية دعمُه لشقيقته بحقّها في أن تمتلك قرارها، وعدم رفضه زواجها، وتردّده في العزاء الوهمي الذي أُقيم كي تُلملم العائلة اليهودية "عار" زواج الابنة من مُسلم.
أكثر من ذلك، فإنّ جاكوب يُشارك في مظاهرات دعماً للفلسطينيّين ضدّ كيان الاحتلال، وشقيقته في أميركا تُواصل نقض السردية الصهيونية. هذا الجانب الذي يمثّله عدد من شخصيات الرواية، بالاستناد إلى الحُبّ وروح الأخوّة بين الأشقّاء. يُقابله جانب جاسوسي، تُمثّله شقيقة ثالثة لهما مع زوجها، وشخصية فريدة، هؤلاء يؤمنون بأنّ اليهود "شعب الله المختار"، لكن نرى في أساليبهم، وفي الطريقة التي يتحرّكون فيها داخل الرواية، خِسَّة وتآمراً، معتمدين على إغراء الرجل الكهل سليم، وعلى المراوغة وتجنيد أصحاب النفوذ بالمال والصفقات المشبوهة.
والرواية إذ تبني شخصيات متكاملة، إلّا أنّ فيها جانبي الخير والشرّ، الخير بما تمثّله جاكوفا وجاكوب من حبّ وإرادة حُرّة، والشرّ بما يمثّله مناصرو "إسرائيل" من طمع وفساد. لا يُمكن للقارئ أن يتجاوز هذه المقارنة، لأنّ الرواية تقول بوضوح كيف تتلاعب السياسة بمصير الناس العاديّين، فكيف بسياسة كيان عنصري يُعادي الآخر ويقتله؟
لا تقول الرواية إنّ اليهود "شعب الله المختار"، بل تقول إنّهم أناسٌ عاديّون اخترقتهم الصهيونية، وساهمت في تهجيرهم من مدنٍ أحبّوها إلى فلسطين السليبة، حتى إنّ الحاخام الصهيوني عندما يتحدّث عن زواج جاكوفا من مُسلم، سرعان ما يتحدّث عن ضرورة أن يُهاجر اليهود إلى "إسرائيل"، حيث لا يوجد غير اليهود. وإن كان للعنصرية والانغلاق أن تتمثّل في فكرة، فهي تتمثّل في هذا القول الذي يدفع مجموعة بشرية إلى العيش بمفردها في مكان بعد طرد "الأغيار" منها.
الرواية، الصادرة عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر"، حكايةٌ اجتماعية عن يهود بيروت، الذين هدمت "إسرائيل" منازلهم في تلك المدينة، وأوقعت بهم عبر شبكات التجسّس، وقد أسهم الصهاينة في نشر العداء بين اليهود و"الأغيار" لتغذية مشروعهم العنصري.
وإذ تتحدّث عن اليهود في المجتمعات العربية، تتحدّث الرواية عنهم في ضوء الفخّ الذي صنعه لهم الصهاينة؛ بأن انتزعوهم بالمكائدِ من بلدان أحبّوها، ونقلوهم إلى "غيتو" مغلق. وعوض الاندماج مع الآخرين، رأى الصهاينة أن يستمرّ اليهود من خلال مُناصبة العداء للآخرين. هذه فكرة سرطانية تمثّلها "إسرائيل" أيّما تمثيل، وقد خطفت قرار اليهود العرب وجعلتهم منبوذين، وموقع شكّ إلى أن هاجروا.
* روائي من سورية