في الرابع من شهر حزيران/ يونيو لسنة 1910، وُلد جاك بيرك، المستعرب الفرنسيّ، في مدينة فَرَنْدة الجزائريّة، حين كان البَلد يَرزَح تحت نير الاستعمار. نَشأ هناكَ وأتقن العربيّة في مدارسها، ثم توّج مَساره العلمي بشهادة في القانون وثانيةٍ في الآداب واللغة العربيّة لدى كبار المستشرقين بباريس. انكبّ بعدها، منذ سنة 1935 إلى آخر أيّامه سنة 1997، على دراسة المجتمعات المغاربيّة والمشرقيّة، بسائر طبقاتها، يعالج مظاهر التلاقي بين النصوص القيميّة وتحوّلات المجتمع والسّياسَة في الحقبة الراهنة. وأصدر عن الموضوع عشرات الكُتب والمقالات.
وكانت له مواقف شجاعة ضد الاستعمار الفرنسيّ في المَغرب، علاوةً على مساندته القضيّة الفلسطينية خلال حرب حزيران 1967، حيث أكّد شرعيّة المقاومة الفلسطينية وقَتها ودان عجزَ منظمة الأمم المتحدة عن حلّ الصراع، مؤكّدًا أنّ "العودة إلى الشرعيّة الدولية وإلى العدالة ضروريّة". وكلّل مَسيرَته العلميّة بترجمةٍ للقرآن اعتبَرها خاتمة أعماله حول الإسلام المعاصر، إذ دون الرّجوع إلى هذا النص التأسيسي لا مجال لفهم ظواهر الإسلام الحديث وتجلّياته في الممارسات السياسية والاقتصاد وحركة الوعي.
وقد استغرَقت هذه الترجمة ستّ عشرة سنةً كاملةً، عشرًا قضّاها في الإعداد، وستًّا لتهذيبها، حرصًا منه على أن تكون كلّ جملة منها واقعةً في المحلّ الأعلى من الدقّة والجماليّة. وتعود صلة جاك بيرك بِالقرآن إلى سنة 1970، حينما طُلب منه أن يكتب مقدمة لترجمة جون غروجون للقرآن (1912-2006) J. Grosjean. وقد تزايد هذا الاهتمام عندما ألقى بيرك دروسه في "الكوليج دي فرانس"، إحدى أبرز مؤسسات البحث الفرنسيّة، وكان يحضر منتداه عددٌ من المسلمين، فتشجع لأداء هذه المهمّة سنة 1982 لينجز صيغة أولى وثانية وثالثة، لم يَنِ عن تنقيحها.
ترجمة توافقية للقرآن تتطابق مع اختيارات العقيدة الغالبة
كان بيرك، كما يؤكد في "مقدمة ترجمته"، واعيًا بما تتطلّبه مجازفة نقل معاني القرآن من معارف عقليّة، زيادة عن الحساسيّة الأدبيّة، حتى كادَ أن يعتذرَ عنها ويتراجع، ولكنه أقدم بعدما اجتَمَعت لديْه طائفة جيّدة من الآيات كان قد تَرجمها للاستشهاد بها في دروسه. وقد اتكأ على أعمال زميله ريجيس بلاشير (1920-1978)، الذي أشاد بحسّه اللغوي الفيلولوجي مع أنه لا يشاركه كلّ مواقفه الوضعيّة، وعلى تَرجمة الشيخ حمزة بوبكر (1882-1995)، الذي أثراها بتحليلاتٍ وشروحاتٍ على طريقة المفسّرين القدماء.
من جهة الاختيارات اللغويّة، أكد بيرك أنه اعتَمد على قاموس Le Robert وعلى ما تضمّنه من المفردات.
الاستثناء الوحيد كان كلمات مثل "هدًى" التي ترجمها "guidance"، و"كافر" التي اختار لها مقابلاً: "Dénegateur"، و"محسن" Bel- agissant". وهي مصطلحات استحدثها هو لتوافق ما في المفردات العربية من دقةٍ وغنًى.
أقرّ الرّجل بأنه التَجأ إلى نظام الرسم والنقط Ponctuation من أجل الإشارة إلى أسلوب الالتفات، وهو تغيّر الضمائر من الغَيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى التكلم، بحسب غايات الأسلوب، عبر العودة إلى السطر أو وضع مطّة، وذلك في مَسعًى منه لتعزيز مفهوميّة النصّ الفرنسي، وزادَ أن اعتَذَر عن قَطع أوصال الوَحدة العضويّة في نظيره العربيّ.
وقد صاغ، على رأس كلّ سورة، مقدّمةً تاريخيّة عن "أسباب نزولها" وأهم موضوعاتها وما تضمنته من محاور رغبةً منه في إضاءة القارئ ومساعدته على فهمها، كما كانت له تعليقاتٍ وحواشٍ على الآيات والمفردات القرآنية، يذكّر بأصولها ويفسّر معانيها ومظاهر البيان فيها، وهي شروحٌ مختصرة، مثل لمعاتٍ وجيزة، رَقّمها بأرقام الآيات نفسها في السور للتعليق إما على المعنى الأصلي الذي غاب مع التاريخ أو لتوضيح نقطة بلاغيّة كَلِفَ بها المفسرون أو لعرض مَسألة خاض فيها الفقهاء والمتكلّمون، وذلك بالاعتماد على "محاسن التأويل" لجمال الدين القاسمي (1866- 1914).
كما ضمّن ترجمته ملحقاً بأهم موضوعات القرآن والآيات التي تشير إليها، رتبها حسب النسق الأبجدي الفرنسي، وجعله بمثابة المكنز أو المرشد الذي يساعد القارئ على الوصول إليها بسرعة. وختمَها بتكملةٍ طويلة تعدّ أكثر من سبعين صفحة خصّصها لمعضلات القرآن. ووضع لها عنوان: "عندما نعيد قراءة القرآن". والهوامش والتكملة مُفيدة لجمهور غير مسلم.
وهكذا، لا تختلف هذه الترجمة عن سابقاتها ببعض التفاصيل التي تَظهر في ترجيح مفردة على غيرها أو تعويض تركيب بآخر، وإنما بالنبرة العامة للنص بأكمله التي حاول تبنّيها بالاعتماد على مواقف تفسيريّة تعضدها.
أُخِذ عليه الإيغال في البحث الأسلوبي حدَّ إثقال النص
هذا، وقد أُخِذَ على جاك بيرك الإيغال في البحث الأسلوبي حدَّ إثقال النص الفرنسي بالمحسّنات وصور البديع حتى جَعْله بعيدًا عن الفهم العفوي، إذ كان يتأنّق في انتخاب العبارات والبحث عن غرائبها إلى درجة تُعقّد الوصول إلى المعنى. كما أخِذ عَلَيه اعتماده التفاسير التقليديّة، ما جعله مائلاً، في الكثير من المواطن لا إلى ما يُفهم بالسليقة، بل إلى ما يَقتَبسه من تأويلاتهم، وهو بعضٌ من الدلالة المرادة وليس كلها.
ومن أمثلة ذلك ترجمته الآية: "إنَّ إبراهيم كان أمّة" بمقابلٍ غريب: Architype، وهي كما قال هو بنفسه، "مجازفة، لا مَناص منها"، حيث لا يصحّ أن يترجمها بـ:Communauté، الدالة على لفيف الناس. وحين ترجَم آية النور: "ليسَ كمثله شيء"، لم يجد، في اللسان الفرنسي، ما يستعيد به هذا التعاود المعنوي بين حرف التشبيه "الكاف" واسمه "مثله"، وما فيه من تأكيد أسلوبيّ على نَفي النظير. على أنّ الرجل كان نزيهًا، حيث كان يسجّل المَواطن التي تعجز فيها تَرجمته عن التعبير عن النص الأصليّ.
وهكذا، أنجز جاك بيرك ترجمته بروح توافقية اجتهد أن تتطابق فيها اختياراته اللغوية مع اختيارات العقيدة الغالبة ومشهور الآراء الفقهية والمهيمن من قواعد الأخلاق والمروءة، بالاستناد إلى الظاهر من قواعد العربيّة وما رجَّحَه قدماء المفسرين، وقد آزره في ذلك علماء عصره من المسلمين، مثل الأستاذ محمود عزب، وهو جامعيّ بفرنسا من خرّيجي الأزهر. ولذلك لم تتضمن هذه الترجمة ما انجَرّ إليه الباحثون الأوروبيون طيلة العقديْن الماضيَيْن والذين ضخموا الشكوك حول الروايات التقليدية وأقاموا حاجزًا من النقد والاعتراض بالاتكاء على المفارقات التي حَفلت بها كتب علوم القرآن وشروحه والتأريخ له.
تعيدنا هذه الترجمة إلى السؤال الأبدي: هل يمكن ترجمة البعد الأدبي الجمالي في النصوص ولا سيما المقدسة منها التي تجعل البراعة اللغوية مظهرَ إعجازها؟ اجتهد في ذلك الرجل وأتى بنص معجبٍ ولكن بالغ في التأنق حتى أثقل. ومع ذلك، تظل ترجمته صورَةً لآثار معاشرته للقرآن قراءة وتأملاً، وهو منعزل في ريفه الفرنسي بقرية نائية من قرى الجنوب الشرقي، اسمها: سان-جاك أوبورن، وسط حداثة زاهية سعى إلى رَبطها بهذا النص القديم، الذي ظلّ بنضرة الفَتاء.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس