عرفَت المكتبات الإيطالية في السنوات الأخيرة ارتفاعاً محسوساً في الإصدارات المتعلّقة بالعالم العربي، والتي أتت بالتزامن مع ثورات الربيع العربي، وما اكتنفها من اهتمام إعلامي؛ إذ يُعرَف أنَّ نتاج الكاتب العربي في السوق الغربية، عموماً، يرتبط بالجيوسياسة وتقلُّباتها. وإن كانت حقبة السبعينيات تُعدّ فترة ازدهار ترجمة الأدب العربي عالمياً، بالنظر إلى الدعم الأيديولوجي من المعسكر الشرقي، وحيث كان الكتاب العربي محاطاً برعاية أيديولوجية خاصّة تحرص على تقديمه كنتاج لأدبٍ أمميّ، فإنّ سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات رفع غطاء "الحماية" عن الأدب العربي في سوق الترجمة العالمية وأعاده في العشرين سنة الأخيرة إلى حقبة التغوُّل الاستعماري وخطابات الاستشراق الفجّة.
وتُلاحَظ، في أوروبا وإيطاليا على وجه التحديد، عودةٌ قوية للاستشراق ضمن المدوَّنة البحثية والترجمية، وهي عودةٌ سقط معها الكثير من المترجِمين الإيطاليّين في مستنقع الترويج للصور النمطية عن العالم العربي، من خلال خيارات بحث وترجمة لم تبعث الحياة في المدرسة الاستشراقية فحسب، بل صنعت خطّاً استشراقياً جديداً يقدِّم خلطة هجينة من خطابات التعاطُف الإنسانية اليسارية والترويج للكليشيهات القديمة للآباء المستشرقين، والتي يطغى عليها التركيز على العنف والطغيان والوحشية العربية التي رسخت في المخيال الأوروبي كتمثُّلاتٍ غير قابلة للتزحزح، مصيّرةً الإنسان العربي عالةً على الكرة الأرضية بكل ما يخلّفه من ورائه من حروب ومظالم لا حصر لها، ومُسخّرة الأديب العربي كـ"شاهد من أهلها" على حضارة موبوءة غدت عبئاً على العالَم الحرّ.
وعلى الرغم من أنّ الكتاب العربي في إيطاليا ما زال يُحسب، بلغة الأيديولوجيا، على دوائر تنتمي إلى معسكر اليسار الراديكالي، إلّا أنّنا رصدنا، عقب ثورات الربيع العربي، إصدارات لدور نشر كبرى وصغيرة ومتوسّطة تتنوّع مشاربُها الأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ذلك أنَّ المفرزات الثقافية لثورات الربيع العربي مالت على ميل اليسار المعتدل المنحاز صهيونياً، وكذا اليمين الذي تأكّد من "وحشية" هذه البقعة من العالم، وهو ما يفسِّر الانتعاشة القوية في السوق الإيطالية للكتاب العربي، والذي اندمجت فيه مؤخَّراً خطابات مستعربي اليسار الراديكالي مع خطابات اليسار الصهيوني والاستشراقية الاستعمارية، في دلالة واضحة على أزمة وجودية عميقة يعرفها اليسار الإيطالي بمختلف تشكّلاته، وهو "من فقد كلّياً البوصلة، ولم يتمكّن من صنع هوية خاصة به بعد سقوط الاتحاد السوفييتي"، كما يوضح غابرييلي غوزي (Gabriele Guzzi) وجيمينيلو بريتيروسي (Geminello Preterossi) في إصدارهما الأخير "في وجه جالوت: بيانٌ من أجل الديمقراطية السيادية" (2020).
تُظهر السلسلة أشكال العلاقة الوثيقة للعربيّ مع بيئته
لكن، ضمن طوفان الإصدارات الاستعرابية المترنّحة فكرياً والمفتقدة لأيّة بصيرة، أطلّت علينا في السنوات الثلاث الأخيرة سلسلة كتب سجّلت انقلاباً صريحاً على البوصلة الأيديولوجية المُخلخلة التي ما زال يعتمدها الباحث الإيطالي للترويج لأعماله عن العالم العربي، معتمدةً مقاربة ذكية طرحت الأيديولوجيا جانباً وركّزت على ملمح ثقافي جديد بدأ يتغلغل في الفكر الإيطالي الشعبي والنخبوي منذ سنوات قليلة، بعيداً عن أيّ اصطفافات سياسية، وهو ما من شأنه أن يفتح باباً هامّاً للكتاب العربي ضمن السوق الإيطالية.
ضمن هذه السلسلة، أتت سلسلة "رحلات في الشرق" عن "Centro Internazionale della Grafica di Venezia" بتوقيع باحثَين من أهمّ المستعربين الذين عرفتهم الساحة الأكاديمية الإيطالية سنوات السبعينيات والثمانينيات هما: جوفاني كانوفا وإيروس بلديسيرا؛ إذ صدر للأوّل عن هذه السلسلة كتاب "اليمن ـ حياة القرى (1982 ـ 1986)" في فبراير/ شباط 2019، ثمّ صدر له في خريف العام نفسه "مصر ـ حياة القرى (1978 ـ 1982)". أمّا إيروس بلديسيرا، فقد وقّع في آذار/ مارس 2020 كتاب "سورية ـ صور حقبة وذكريات (1971 ـ 1979)"، وفي تشرين/ أكتوبر من العام نفسه كتاب "عُمان التي عرفت" (1986 ـ 2001).
وعلى الرغم من أنَّ ثلاثة من البلدان المدروسة في هذه الكتب كانت مسرحاً لأحداث سياسية وعسكرية ملتهبة في السنوات الأخيرة، تمكن الباحثان الإيطاليان من تقديم هذه البلدان من خلال عدسة أنثروبولوجية متفرّدة من شأنها أن تقلب الكثير من التصوُّرات عن العالم العربي في الغرب، إنْ تمّ التركيز عليها في السنوات المقبلة، وذلك لملامستها موضوعاً يتزايد الاهتمام به مؤخَّراً مع انعكاسات واضحة على حياة الفرد الإيطالي اليومية، وخياراته الاستهلاكية، وكذا إنتاجاته الفكرية والإبداعية، ألا وهو العودة إلى الطبيعة.
في رسالة وجّهها إلى الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو ونشرتها جريدة "Paese Sera" في 8 تموز/ يوليو 1974 بعنوان "رسالة مفتوحة إلى إيتالو كالفينو" ومقال نُشر في 1 فبراير/ شباط 1975 على جريدة "Corriere" بعنوان "فراغ السلطة في إيطاليا" تحدّث الشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني عن "انطفاء اليراعات" في إشارة إلى خبوِّ الروح الريفية في إيطاليا، متحسِّراً على "غروب الحضارة الريفية". وقد أثار مقال بازوليني حينها ضجّةً كبيرة، بسبب تنبُّؤ شاعر إيطاليا الرؤيوي ببدء الانحسار التدريجي والنهائي للهوية الإيطالية ودخول دوّامة العولمة.
رصانة وموضوعية لافتتان في غمرة كتابات المستشرقين الجدد
إلّا أنَّ معالم الردّة على أسلوب الحياة الصناعي الذي فرضته العولمة، بدأت في الظهور في اليوميات الغربية مؤخَّراً مِن خلال تغيير أنماط الاستهلاك الغذائية بالدرجة الأولى والميل إلى المنتجات العضوية، وقد كانت إيطاليا السبّاقة إلى استحداث حركة "Slow food" (الوجبات البطيئة) مع كارلو بيتريني، في مقابل "Fast food" (الوجبات السريعة) في نهاية الثمانينيات. امتدّ الاهتمام بالعودة إلى الطبيعة إلى النتاج الإبداعي والفكري من إيطاليا نفسها، إذ أُدرج عام 2017 رسمياً مصطلحٌ مستحدث في القواميس الإيطالية هو Paesologia، والذي سكّه الشاعر الإيطالي فرانكو أرمينيو (1960) ويعرّفه قاموس Treccani بأنّه فن التعرّف على البلدات الصغيرة باعتبارها مركزاً عميقاً للحياة، من خلال محاولة نقل مشهديّاتها بعيداً عن أي منهج علمي صارم في سبيل حماية نمط العيش القروي من فعل التلاشي عن طريق الجمع بين أبحاث في علم الأعراق، والشعر والجغرافيا.
هذا التوجُّه الفكري يعكس صحوة إيطالية على فداحة الخسارة التي خلفتها المدنية والتوحُّش الصناعي في الغرب الذي يكاد يقضي على أنماط العيش الأصيلة في العالم أجمع، وتظهر هذه الصحوة جلية في كلّ إصدارات "رحلات في الشرق" التي ركّز فيها كانوفا وبلديسيرا على إظهار تناغُم الحياة العربية مع أنماط العيش المستدامة وقدرة العربي الفطرية على انتهاج أسلوب حياة ينسجم مع مكوّنات بيئته دون الإخلال بتوازُن أيٍّ من عناصرها؛ حيث تُظهر هذه الكتب، التي أتت على شكل كاتالوغات، صور العلاقة الوثيقة للإنسان العربي مع بيئته الثقافية والإيكولوجية. وحيث لم يتردّد بلديسيرا في إصداره "سورية" في التحسُّر على "التغريب" الذي بدأ يطغى على أنماط العيش في سورية حديثاً ـ بعيداً عن الحقبة التي وثّقت لها صُورُه في فترة السبعينيات ـ وهو التغريب الذي "ترك على الصعيد الاجتماعي نتائج سلبية أكثر منها إيجابية" كما ورد في مقدمة العمل. في المقابل، وفي "عُمان التي عرفت"، حرص الكاتب ذاته على الإشارة إلى تشبُّث هذه الدولة الغنية بترولياً بأصالتها ونمط العيش المستدام مع التنويه بالحكم الراشد فيها، في اختراق آخر لكليشيهات الاستشراق الجديد التي لا يكاد يظهر معها الحاكم العربي سوى بصورة كاركاتيرية نمطية موحّدة.
من جهته، حرص كانوفا، هو الآخر، على تقديم الجانب الثقافي العريق لليمن، وما يختزنه من كنوز حضارية، مع التركيز على القيَم المجتمعية الأصيلة لشعوب هذه المنطقة، وهي التي دأب الإعلام الغربي في السنوات الأخيرة على تصويرها كشعوب لا تحترف سوى تقتيل بعضها، بينما اختار كانوفا من جهته إظهار نمط العيش المشترك بين الأقباط والمسلمين في صعيد مصر، كما أقفل كتابه عن اليمن على نحو لافت بصورةٍ لمخطوط يحتفظ به "معهد الشرق" في روما لوثيقة حصل عليها المستشرق الإيطالي إيتوري روسي في اليمن عام 1937 تُمثِّل القانون الذي يحكم العلاقة بين القبائل اليمنية، والذي يَعتبر قتل شخص دخل أراضي قبيلة أعطته الأمان أقصى درجات العار في العُرف العربي.
وقد أتت لغة كانوفا الرصينة والموضوعية لافتة للانتباه، في غمرة الكتابات الانفعالية والعاطفية للمستشرقين الجدد، كما أنّ النفَس السردي الذكي لبلديسيرا لم يغب عن مقدّمتَي إصدارَيه في هذه السلسلة. وقد خلت الأعمال الأربعة من كليشيهات الخطابات المباشرة الذي يحرص المستعربون الجدد على اعتمادها للتأكيد على أنَّ كتبهم تحاول كسر الصوَر النمطية عن العالم العربي.
وقد اختار المستعربان المخضرمان من جهتهما تقديم دروس عملية لا بلاغية عن كسر الصور النمطية، من خلال صور التقطها الباحثان بعدستيهما الشخصيتين أظهرت وجوهاً عربية مبتسمةً تارةً وغارقة في العمل تارة أُخرى، ونساء مشرقات يمارسن طقوسهن اليومية، ويشاركن في الحياة الاجتماعية والثقافية بانسيابية، وأطفالاً سعداء، ورجالاً يطعمون حيواناتهم بأيديهم، ويصنعون سفنهم بوسائل مستدامة، ويستخدمون لأرضهم الأسمدة الطبيعية... إلى جانب منازل، وقبور، وآثار، ودور عبادة تبدو امتداداً للمشاهد الطبيعية. وكلُّها صوَرٌ التقطها الباحثان خلال سنوات عملهما الأكاديمي وبحوثهما الميدانية في العالم العربي، والتي كانت قد شكّلت محاور معارض مختلفة بين نابولي وروما وكاتانيا وفينيسيا، قدّما خلالها صوَر السكينة والدأب التي تطبع يوميات العربي من خلال تعايشه السلمي مع بيئته، بعيداً عن وحشية وتجهُّم وعطالة الإصدارات المرتبطة بالجيوسياسة.
وبذلك، تُشكِّل الطمأنينة والنشاط والتهلّل والعمق الثقافي الضارب في أعماق التاريخ عناوين صوَر كانوفا وبلديسيرا، في رؤية من شأنها أن تُقدِّم الإنسان العربي كنموذج يُحتذى عن التعايش السلمي مع محيطه، في مقابل الصورة الاستشراقية الجديدة التي لا يظهر من خلالها العربي سوى كعالة مزمنة على كوكب الأرض ومحض مشكلة سياسية لا أمل في شفائها.
* كاتبة جزائرية مقيمة في إيطاليا